الحرب على سورية واستراتيجية الصين الجديدة في المنطقة
علي اليوسف
لطالما تناقضت التوجهات السياسية للصين مع مثيلاتها الأمريكية خلال الحقبة الأخيرة، ويعود ذلك التناقض إلى براغماتية سياسة الصين الخارجية التي تحكمها تقاطعات الأيديولوجيا بالمصالح، ولكن مع بدء شرارة الحرب الكونية على سورية ظهر موقف جديد للصين تجاه الأزمة السورية تعدى حدود الاختلاف المعهود مع سياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وبلغ حد التصادم والمواجهة السياسية، في سابقة تعد الأولى من نوعها في هذه المنطقة.
لقد أسهم تدخل الصين في واقع توازنات معادلة القوى في الشرق الأوسط، إلى جانب كل من روسيا وإيران، في إحداث تطوّر جديد إلى تلك المعادلة، وقد تجلى هذا التدخل بقوة حين استعملت الصين الفيتو أكثر من مرة لإحباط صدور قرارات عن مجلس الأمن تدعو إلى التدخل في شؤون سورية الداخلية، وتطبيق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وإحالة الملف السوري إلى محكمة الجنايات الدولية. إن استخدام الصين المتكرر لحق النقض في مجلس الأمن، على الرغم من أن الصين تعتبر الدولة التي لم تستخدم هذا الحق إلا نادراً من بين دوله الخمس الدائمة، ما هو إلا موقف متقدّم لصياغة جديدة لدورها في منطقة الشرق الأوسط.
خلال مرحلة ما يسمى “الربيع العربي”، رفضت الصين التدخل الخارجي لتقويض الأنظمة، كما حصل في ليبيا، معتبرة أن التدخل الخارجي في أفغانستان والعراق، ومن بعدها ليبيا وسورية واليمن ألحق مخاطر ومعاناة بالشعوب. وبعد أن أيقنت الصين أن الأزمة في سورية هي في الحقيقة حرب الدولة الوطنية وإرهابيين متطرفين مدعومين من الخارج، رحبت بجهود حل الأزمة السورية بشكل سلمي ضمن إطار مؤتمر جنيف، وكان مؤتمر جنيف الأول قد طرح ضرورة التزام الدول المشاركة فيه بسيادة سورية واستقلالها، ووحدتها الوطنية وسلامة أراضيها، والتحرك السياسي بقيادة الدولة السورية باتجاه الترتيب لعملية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بالتوازي مع مواصلة الحرب على الإرهاب حتى اجتثاثه من جذوره.
موقف الصين في سورية مرده إلى أنها لا تثق بنيات واشنطن الراغبة في إسقاط الحكم في سورية، والهيمنة عليها، كما تبسطها على معظم مناطق الشرق الأوسط، لذلك استخدمت الفيتو أكثر من مرة لإسقاط مشاريع قرارات تبنتها الولايات المتحدة في مجلس الأمن تهدف إلى تقويض الدولة الوطنية،كون نصوص تلك المشاريع تتنافى مع مبدأ احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، والذي يعد أحد المبادئ الخمسة الثابتة التي تؤمن بها الصين في تحقيق سياستها الخارجية.
لقد تزامن عهد ما يسمى بـ “الربيع العربي” مع إعلان الولايات المتحدة عن تمركز استراتيجيتها الخارجية خلال القرن الحادي والعشرين على الاستثمار الدبلوماسي والاقتصادي في منطقة المحيط الهادئ، بما يعتبر تهديداً مباشراً للصين، والتي اعتبرت أن المناورات العسكرية الأمريكية المشتركة مع اليابان وكوريا الجنوبية تشكّل تهديداً يهدف إلى تطويقها أمنياً، ولم تخف قلقها من بيع الولايات المتحدة أسلحة لتايوان في صفقة قيمتها ستة مليارات دولار، وساهم وضع الدرع الصاروخية للناتو في تركيا في تزايد ضرورة تدخل الصين ضمن معادلات منطقة الشرق الأوسط، في ظل الدور التركي الصاعد فيها، وحساسية العلاقات التركية- الصينية بسبب الامتداد الديمغرافي التركي داخل الصين في إقليم “سينكيانج”.
وتخشى الصين من سيطرة الأحزاب الدينية في دول الشرق الأوسط، خوفاً من أن يشكّل ذلك تصعيداً لحراك عدد من الحركات الانفصالية في الصين، خاصة أن هناك عدداً من الأقليات الصينية المسلحة الموجودة في الصين تقاتل إلى جانب الإرهابيين في سورية، ومنهم متشددون من قومية “الايغور” تلقوا تدريباً على يد مسلحي “داعش” لتنفيذ أعمال إرهابية في الداخل الصيني.
وتعتقد الصين أن الولايات المتحدة تشجع الجماعات الانفصالية في الصين، بما لا ينفصل عن توجهها مع الإسلام السياسي، وتعتبره شكلاً من أشكال التدخل في سياستها الداخلية، وتعتبر أن انتقادات الولايات المتحدة لها بزيادة إنفاقها العسكري، ومطالبتها برفع أسعار عملتها، وبإصلاحات داخلية، واتهامها بانتهاك حقوق الأقليات وحقوق الإنسان والحريات العامة، هي تدخل في شؤونها الداخلية، وتعتبر أيضاً أن محاولات الولايات المتحدة لزعزعة استقرار المنطقة العربية تأتي لسد الطريق أمام إمدادات النفط التي تصل إليها، خصوصاً أن ذلك جاء بعد تراجع اهتمام الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط، وسعيها للخروج منها، بعد اكتشاف كميات كبيرة من النفط في كندا والبرازيل، وتطوير العديد من التقنيات لاستخدام الطاقة البديلة والطاقة الكامنة في باطن الأرض كبديل مستقبلي للنفط.
من هنا ترى الصين أن التعاون الاقتصادي يحتاج إلى توافر الأمن والسلم في العالم، الأمر الذي يفسر مساعيها للتهدئة وحل المشكلات الدولية بطرق دبلوماسية من خلال استراتيجية تقوم على أساس علاقة صفر مشاكل مع العالم الخارجي.
أدت التطورات الدولية، وخصوصاً تلك الحاصلة في الشرق الأوسط، بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، وما أعقبها من تطورات حتى انطلاق حقبة ما يسمى “الربيع العربي”، إلى فرض التدخل الصيني في معادلة الصراع في هذه المنطقة، وخصوصاً أن انهيار المنطقة أمنياً بات يشكّل خطورة محتملة على الأمن القومي الصيني مباشرة، وليس فقط على مصالحها الاقتصادية.