ماذا فعلنا.. للترجمة؟!
حسن حميد
دائماً، آخذ نفسي إلى قلبي، ألملمها من كثرة التحسر وهي ترى يوماً بعد يوم، أن نوافذ التجهيل تزداد كماً ونوعاً، وأنها مشرّعة على آخرها لتسريب أكبر كمية من أنفاس التجهيل والجهل الحامضية!
ولأنني أتحدث عن نوافذ، فإنه ليس بمقدوري الحديث عنها جميعاً، وحسبي في هذه الوقفة أن أتحدث عن واحدة منها أراها الأكثر ضرراً وتدميراً، وقطعاً لكل الدروب الموصلة إلى ثقافة الآخر، كدت أقول: الموصلة إلى معرفة الآخر المعرفة الحقيقية من دون زيف أو رتوش أو صخب إعلاني، وهذه النافذة هي الترجمة، فنحن وبعد أن سعت جامعاتنا العربية على اختلافها في المستوى والتوجه إلى افتتاح الأقسام الكثيرة المعنية باللغات الأجنبية، وتخريج الأفواج من العارفين بهذه اللغات ما زلنا نعاني من جهلنا بالكثير من الثقافات والمجتمعات الدانية منا والبعيدة، والسبب يتمثّل في أن معرفة اللغات الأجنبية لم توضع في حقول التجربة، أي العمل على الترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية وفي مختلف الميادين، ولا أريد القول: والترجمة من اللغة العربية إلى اللغات الأجنبية لأن هذا يحتاج إلى كلام كثير، وإمكانات كثيرة أيضاً، وهنا أشير إلى سؤال مشروع وهو: لماذا لم تقم هذه الأفواج التي خرّجتها أقسام اللغات الأجنبية بدورها في شؤون الترجمة؟! وما الأسباب؟ وهل الشغف بالترجمة كان قليلاً أو ناقصاً، وهل كان الحديث عن الترجمة منقطعاً ما بين الأستاذ والطالب، تُرى أين تكمن المشكلة؟!
في ظني لا غاية مهمة يهدف إليها دارس اللغات الأجنبية سوى الترجمة، بعد إتقان اللغة ومعرفة أسرارها، وهذا أمر جليل لأن الأمم والشعوب والبلدان تتعارف بوساطة الترجمة، ولأن مناشط التجارة، والثقافة، والفنون، والسياسة، والسياحة، تقوم أصلاً على الترجمة، ومن دونها تظل ظروف التلاقي والتواصل عقيمة فلا تصل إلى أهدافها المرتجاة.
هذه النافذة المشرعة على القطيعة مع الآخر بسبب قصور أعمال وأفعال ورؤى الترجمة، هي نافذة مخيفة لأنها ملأى بروح التجهيل، وعدم معرفة الآخر، سواء أكان صديقاً أم عدواً. وأنه من حق أبناء الشعوب أن تتعارف كي لا يبطش أهل القوة والدموية اللائذون بيافطة السياسة والمصالح بكل ما حولهم، لظنهم أن العالم كله، مالاً وجغرافية وتاريخاً وحضوراً، مُلك لهم، الترجمة ليست ضرورة، وإنما هي جوهر، وغاياتها أبعد من نقل كتاب أو تعريبه إلى لغتنا، لأنها الطريق المباشر إلى المعرفة الصحيحة، لهذا أقول إن العيب، والقصور، والتراخي في هذا المجال، وترك هذه النافذة مفتوحة لتعبئة قلوبنا وأرواحنا بالجهل، يعود إلى أمور عدة، لعل في طالعها عدم وضع أهداف علوق بمفهوم الوطنية، وحين أتحدث عن الوطنية أتحدث عن القومية والإنسانية معاً، وترتيبها حسب الأولوية والأهمية، ولعل من أبرز هذه الأهداف العمل على إعداد المترجم الإعداد المهموم بالروح الوطنية كي نكوّن كوادر الترجمة التي تستطيع رفع عمارتها، وبناء مدينتها، وهندسة جمالها الذي نحلم برؤيته! ومصاحبة لهذا الإعداد الجدي والرصين لابدّ من احترام المترجم، وبناء شخصيته الاعتبارية بوصفه أكثر من ناقل لغة، وأكثر من مثقف، وأكثر من موظف، وأكثر من لسان آخر، لابدّ من جوهرة شخصية المترجم لتغدو أثمن من الأحجار الكريمة لأهميته التي تكاد تكون سحرية لأنه يُعرّف من خلال الترجمة بلاداً ببلاد وثقافةً بثقافة، وعادات وتقاليد بعادات وتقاليد.. لا شيء يملأ الحياة اليوم بالمحبة، وقد طفت ثقافة القوة الخشنة، سوى الترجمة، ولا شيء ينقذ البلدان والشعوب والأمم من نزعات البطش والدموية والاحتلال سوى الترجمة، لأنها توفر الاحترام ما بين هذه الشعوب، قد يكون بلد الآن ضعيفاً في اقتصاده وإعداده العسكري، ولكنه يمتلك حضارة هائلة في جمالها وغناها، مثل اليونان، الترجمة هي التي يعوّل عليها لتعريف أهل البطش والدموية بحضارة اليونان، كي يخافوا من أن يمسوا حجراً كان نشيداً من الغنى والجمال في مسرح من مسارح الثقافة العالمية.
وفي ظني لن يكون هذا الإعداد، وبناء الاحترام للمترجم إلا عبر معاهد كبيرة، أو قل جامعات كبيرة معنية بالترجمة والتدريب لتصير مصانع لخلق ثقافة جديدة بمزاج جديد، وروح تَعرف معاني المحبة، مثلما تعرف: أن في الناس المسرة.
Hasanhamid55@yahoo.com