إقالة
عبد الكريم الناعم
إذا قلنا “إقالة” فأوّل ما يتبادر للذهن هو “إقالة” أحد المسؤولين من منصبه، وذلك لِغَلَبة مفردات السياسة اليوميّة على ما عداها، وليس هذا ما نحن بصدده، فمعنى “أقالَ الله عثْرتَك: أَنْهَضَك من سقوط – صَفَح عنك” (المنجد)، ومن معاني الإقالة: “الفَسْخ”، كأقالَ البيْعَ فَسَخَه”، ومن الجملة الأخيرة اشتُقّت “الإقالة” من المنصب، بمعنى الفسْخ.
ما أنا بصدده له وجهة أخرى، فقد ورد في كتب السِّيَر والأدب الحضّ على إقالة العثرة، ولا سيّما لنوع من الناس يتّصفون بتلك الصفة التي سترد بعد قليل، فكم من صاحب “مروءة” عثر فانتقل من نعيم وعزّ كان فيه، فوصل إلى حالة ربّما تثير الرثاء، والعثرة قد تكون ماديّة وقد تكون معنويّة.
والمروءة تعني: “النّخوة، وتمام الرّجولية”، فكم من واحد من أصحاب هذه المروءة عثر به الزمان، فقلَب أحواله، وعن هؤلاء قال الامام عليّ (ع): “أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فإنّه ما مِن عاثر يَعثر منهم إلاّ ويَد الله في يده ترفعه”، وتابع هذا القول حفيده الإمام جعفر بن محمد، فقال: “أجيزوا لأهل المعروف عثراتهم واغفروها، فإنّ كفّ الله عليهم هكذا – وأوماَ بيده كأنّه يُظلّ شيئاً”. و”المعروف” هنا هو أيّ فعل فيه مُساعدة على إتيان الخير، لاسيّما ما يخصّ الضعفاء وأصحاب الحاجة، بل هو أيضا قد يكون ماديّاً ومعنويّاً.
في هذا الزمن الذي نحن فيه يمكن اعتبار الوطن بكامله في حالة عثرة، فُرضتْ عليه من الخارج والداخل، من قوى ظالمة غاشمة، ولا أعني بالوطن الحدود الجغرافية فقط، بل أعني سكّانه، فمعظم سكّان بلدنا مصاب بتلك العثرة التي تقتضي الإقالة بمعناها الماديّ بالدرجة الأولى، فالناس الذين كانوا قبل إيقاد نيران الخراب التي أشعلها الدواعش، بمن معهم، معظم الناس الذين كانوا، في الغالبيّة، في حالة مستورة تؤمّن ضرورات الحياة، فإذا بهم بعد هذه الكارثة يهبطون إلى ما دون خط الفقر، بسبب التحوّلات العميقة، القائمة على الخراب والتخريب، فكم من مستور انكشف ستره، وكم من مالك وجد نفسه لا يملك شيئاً، وكم من موسر كان فإذا هو على قارعة الحاجة، وزاد الطين بِلّة الحصار الأمريكو صهيوني، ورافق ذلك تفشّي مرض كورونا، حتى لكأنّ باباً من العذاب قد انفتح.
هنا يأتي دور الأثرياء، الذين حصّلوا ثروتهم إمّا بطريق الحلال، أو عن طُرق الحرام غير هيّابين، وهم الآن في ظلّ حاجات النّاس يتنعمّون بما لديهم من أموال، أيّاً كان مصدرها، ويكفي أن ننظر إلى بعض الموائد التي تبدو عامرة بكل ما تشتهيه النفس، وتلذّ به الأعين، بينما الأكثريّة من عباد الله صاروا عاجزين عن تأمين الضروريّ الضروريّ لاستدامة الحياة بمعناها الفيزيولوجي، مع ما يرافق ذلك من أمراض نفسيّة، واجتماعيّة فقستْ من بيض ذلك الخراب.
أيها المتنعّمون، وأنا لا أستجديكم، ولكنّني أذكّركم بالحديث النبويّ القائل: “ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع” فانظروا على أيّة أرض تقفون. هذه الأموال التي بين أيديكم أخذتموها، وأنتم أدرى كيف أخذتموها، وجمعتموها من خيرات هذا الوطن، فمَن الذي قال لكم أنّ نصيب الفقراء أن يقدّموا الشهداء، ويدافعوا عن كرامة الوطن، ويصرّوا على حفظ وحدته، وأن يكون نصيبكم أنتم التّمتّع بأطايب الدنيا على أنواعها؟!
انظروا إلى الراحة التي أنتم فيها، وإلى الموائد التي يُكبّ منها ما يكفي عشرات العائلات الفقيرة، وما أكثرها، وانظروا إلى زُرقة البحر وأنتم في شاليهات البحر، وتمعّنوا بالأمن المحيط بكم، هذا كلّه بفضل دماء أبناء الفقراء، والمعوَّقين، فكيف تستطيعون النّوم وبجواركم مَن يحتاج إلى ربطة الخبز؟!
إنّ الانتماء للوطن ليس أن تحمل بطاقة “هويّة” فقط، بل هو انتماء إلى أزماته، وإلى أحزانه، وإلى جراحه، وما عدا ذلك فليس من الوطنيّة في شيء.
مَن لا أسمّيه سمعته يقول: “والله إنّي لأخجل أن أذهب إلى مطعم، وأنا قادر على ذلك، خجلاً ممّا عليه معظم الناس”، حيّا الله الإحساس المرهف.
aaalnaem@gmail.com