الحكومة العتيدة و”الخريف الملتهب”
أحمد حسن
دستورياً، وبعد أن أنجز السوريون استحقاق انتخابات مجلس الشعب، ينتظرون اليوم استحقاقاً دستورياً آخر، فمع بدء جلسات المجلس الجديد أمس أصبحت الحكومة الحالية بحكم المستقيلة – حكومة تصريف أعمال – ما يقتضي تشكيل حكومة جديدة في أقرب وقت ممكن، وذلك يعني، بالعرف السياسي، بدء موسم التوزير، وموسم الاستيزار أيضاً، فكما أن هناك رجالاً، ونساء، تزكّيهم سوابق أعمالهم، أو كفاءاتهم المشهودة، أو أحزابهم الفاعلة للجلوس على كرسي الوزارة العتيدة، هناك أيضاً رجال يزكّون أنفسهم لمقعد وزاري محدّد – وبعضهم لأي مقعد – أمام من يتوسمون فيه القدرة على توزيرهم، وذلك، للحقيقة، حق مشروع للجميع.
لكن على هؤلاء، الطامحين والمؤهلين، معرفة حقيقة أولى مفادها أن مهمة الحكومة القادمة قد تكون الأصعب والأخطر من مهام الحكومات السوريّة السابقة مجتمعة، فهي لا تكتفي بوراثة مواجهة مستمرّة، وشرسة، مع “فيروس” أعيا العالم بأسره، ولا وراثة عبء اقتصادي واجتماعي ضخم، سواء بسبب الحرب، أم الفساد، أم قلة الحيلة وفقر الخيال لدى من سبقها، يضاف إلى ذلك عبء آخر يتمثّل بنقص ملحوظ في الثقة الشعبية بأي اجراء حكومي نتيجة تجارب سابقة، فهي مع كل هذه الأعباء الكبيرة ستكون أيضاً، وأولاً، في مواجهة أكبر وأخطر وأقسى حصار اقتصادي يُضرب على سورية والمتمثّل بـ “قانون قيصر” الإجرامي، في عالم عزّ فيه النصير، وتردّد فيه الحليف، وتداعت علينا الأمم/ الذئاب من كل حدب وصوب.
بهذا المعنى لن يمنح المواطن الحكومة أحقيّة التمتّع بترف مهلة السماح المعتادة عالمياً، فهي، ومنذ اليوم الأول لتشكيلها، مطالبة بمواجهة استحقاقات عدّة، أولها “خريف ملتهب” – وهذا ليس خطأً في تركيب لغوي، بل حقيقة موضوعية – باعتباره يجمع بين “امتحانين”: موسم المدارس ومستلزماتها، وموسم “المونة” المعتاد للعائلة السورية، وهما في الحالة العادية يشكلان معاً صخرة ضخمة يدفعها “سيزيف” السوري، سنوياً، نحو قمة الجبل لتعود في السنة الجديدة وهي أكبر من جراء ما تضيفه إلى حجمها، وهي تنحدر باتجاهه كقدر لا يُردّ ولا يُصدّ، فكيف في هذه الحالة الاستثنائية حيث المعاناة أقسى وأشد بما لا يقاس.
والحقيقة أن هناك خطوات محدّدة يمكن للحكومة القيام بها فوراً، بدءاً من أول جلسة رسمية لها، أهمها استعادة ثقة المواطن، وهذا يتم أولاً بإجراء بسيط جداً عنوانه “الشفافية”، أي وضع المواطن كل لحظة أمام الموانع التي تقف في وجه تأمين حاجياته الضرورية، والابتعاد عن الوعود الكبيرة التي لا يمكن الالتزام بها، وثانياً، عدم التجريب وتشكيل “لجان” للبحث عن حلول، فالحلول بسيطة ومعروفة – “قتلت بحثاً” كما يقال – ولدينا منها مجلّدات “أكثر من الهمّ على القلب”، وهي تبدأ بتفعيل نظام التقييم والمحاسبة، أي عدم التفرقة بين القاتل بالرصاص، أو بالتجويع، أو بالإفساد الممنهج، بالتوازي مع إغلاق “مزاريب” الهدر وإقالة المسؤول المقصّر فوراً، والتركيز على أولوية الاستثمار الأمثل للكفاءات والموارد المتاحة، والعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي وتفعيل برنامج إحلال المستوردات وأدواته التحفيزية، وهذا يحتاج، حكماً، لـ “سدّ الأذن” أمام الوصايا “المقدّسة” للاحتكاريين الكبار ووكلاء الرأسمالية المتوحّشة المحليين، ففيها السم الزعاف وقد تجرعناه سابقاً حين منحنا التجارة والخدمات أولويّة بيّنة على الصناعة والزراعة، فكانت العوارض المعروفة: غلبة الاستهلاك – وبعض ظواهره، ومظاهره، مستفزّة بامتياز – على الإنتاج، والنتيجة، استفحال الظروف المعيشية وارتفاع الأسعار، وتوسع أفقي وعامودي للفقر، ومعه الإحباط طبعاً، الأمر الذي انعكس سلباً على الأمن الاجتماعي، فاستغله الخارج، الجاهز والمتحفّز، خير استغلال.
وببساطة ووضوح، يعرف الجميع، وبالتجربة، أنه لا يمكن مواجهة التحدّيات الحاليّة، والقادمة، بالأدوات والعقليّة الاقتصادية ذاتها التي أوصلتنا إلى هنا، أو على الأقل لم تكن كافية ووافية للمواجهة، فهل تغيّر الحكومة العتيدة هذه الأدوات والعقلية معاً؟! هذا ما يأمله السوريون، لأن الخارج، وعلى رأسه واشنطن، يريد قطف ثمار النزيف الذي أحدثته بحصارها الخانق، وأحدثناه بسياسات وأدوات – أشخاص – اقتصادية مربكة ومرتبكة، كي لا نقول أكثر من ذلك، وعلى عاتق هذه الحكومة، رغم الظرف الصعب والضاغط، وقف هذا النزيف، وتلك، للحق، مهمة صعبة جداً، لكن سورية ولّادة، وفي ذلك الأمل.