“اسمرانية”.. الإبداع والأصالة والهوية
بين الكمّ الهائل من الأغاني الرديئة، المرئية على قنوات الفيديو كليب لا تحصى، وإذاعات لا تتوقف عن بثها، تظهر أغنية “اسمرانية” لتعيد بعض الأمل بأن هذا الزمن قد يجود بأغانٍ جيدة، ففي 16 تموز الماضي، وفي الساعة السابعة مساء منه، ظهر مقطع فيديو غنائي على مواقع التواصل الاجتماعي –اليوتيوب- جمع جهود ثلاثة من المبدعين سهير صالح في الغناء، وافي العباس في الموسيقى والتوزيع، وإخراج علاء أبو فراج.
يُقال إن التاجر الخبير عندما يُفلس يعود إلى دفاتره القديمة، ويبدو أن هذا المبدأ يصحّ على الفن، فاليوم نشهد ثلاثة من الفنانين السوريين يستشعرون هذا الإفلاس حولهم، فيقررون الاستفادة من دفاترنا الحضارية، ويتكئون على كنوز التراث السوري، يشتغلون على أغنية من تراث الجنوب، في توليفة لكلمات من تراث حوران، وعندما نقول حوران، فإننا نعني المنطقة التي كانت تُدعى “إهراءات روما” أي المنطقة التي تزوّد الإمبراطورية الرومانية بالقمح، هناك حيث الفن جزء لا يتجزأ من تاريخ تلك التربة الخصبة الداكنة، مدرج بصرى وهو من أكبر المسارح وأكثرها اكتمالاً في التاريخ القديم، يكفي للدلالة على قيمة الفنون الضاربة في القدم هناك، والتي لم تزل حيّة على شكل أغان تُردّد في المناسبات.
واضح من مشاهدة المقطع (4 دقائق) أننا أمام مشروع تقف خلفه جهود كبيرة ووعي عميق بطبيعة المادة التي يشتغل عليها أصحابها، وأنه ليس من المشاريع التي تعيش مؤقتاً، بل يؤسّس لحالة معرفية وثقافية متكاملة، تنطلق من الوعي بالذات والهوية، وتستند إلى الذائقة الحيّة للناس وتعمل على استنهاضها من جديد، فكيف نجحوا في ذلك؟.
هناك قول في تعريف الإبداع، بأنه: “أن تقول شيئاً قديماً بطريقة جديدة، أو شيئاً جديداً بطريقة قديمة، أو شيئاً جديداً بطريقة جديدة”.
ما نلاحظه في مشروع “خيمة” أنهم يسعون إلى تحقيق أنواع الإبداع الثلاثة معاً، فهم يقولون تراثاً بطريقة جديدة، على مستوى المادة الصوتية بمعزل عن المادة البصرية، نجد الصوت البشري الجميل الملائم للموضوع، والذي يتقن لفظ الأحرف والكلمات بشكل صحيح، ويمتلك مساحة تستطيع فعلاً تقديم هذا النوع الصعب، فيخلط معاً وبمهارة عالية أجواء وإيحاءات الأعراس الشعبية، مع أجواء المقاهي الحديثة والإذاعات ومواقع التواصل، وبهذا يتسرّب إلى ذائقة الجيل المعاصر من باب التوزيع الإيقاعي فقط، بعد إضافة القليل من البطء على الإيقاع أو الأداء الصوتي، الموسيقى تراثية بصرف النظر عن الآلات، والمقصود أن اللحن متحقّق فقط مع الصوت البشري أو الغناء بصوت المغنية، ولكن إعادة توزيع اللحن، بلمسة طفيفة بارعة عليه، جعلت من الأغنية ككل هي المضمون، الذي يُقدّم بشكل جديد يأخذ الإيقاع دوراً رئيسياً فيه.
ولأننا أمام وسيط بصري فإن الصوت واللحن والإيقاع مع المغنية التي تظهر، سوف تشكل جميعاً المضمون عند النظر إليها من وجهة نظر الإخراج، الذي يأخذ هنا دور الشكل النهائي الذي يتلقاه الجمهور، لا نعلم إذا كان المخرج هو من قام بالمونتاج، ولكن أياً كان فإن المونتاج، عند النظر إليه بمفرده، يمكن اعتباره شكلاً أحدث من مكونات هذا العمل الفني، هذا النوع من المونتاج مندمج مع الإخراج كقيمة فنية، أي لا يمكن النظر إلى أي منهما بمعزل عن الآخر، فالشاشة المقسومة إلى نصفين في البداية، تظهر المغنية في كل منهما، بأفعال مختلفة أو بأداء مختلف عن الثانية، ثم تبدأ التي على الشاشة اليسرى بالغناء، وبعدها تتبعها التي في الشاشة الأخرى. يوجد اختلاف في الشكل بين النصفين ولكن يتوحدان بالغناء، وبعدها تظهر الشاشة كاملة للمغنية وهي تدخل الكادر، لتتوالى بعدها قطعات عدة تعرضها بملابس بديعة التصميم، حديثة ولكن لها طابع سوريّ قديم بالتصميم واللون. الاعتناء المذهل بكافة التفاصيل التي تراعي الاتجاهات الحديثة في المونتاج والإخراج والتصوير والديكور والملابس، أتى كحامل ملائم على مستوى ذلك الكنز الفني التراثي، وذلك لإعطاء فكرة بأن هذا التراث الخالد أكثر حداثوية مما تعتقدون أنه “حداثوي”.
في واحد من الحوارات التي أجرتها الفنانة المؤدية للأغنية، تطرح سؤالاً بسيطاً: “لماذا لا يوجد من يشتغل على هذا النوع من الغناء السوري؟”، وتضيف: “هناك الكثير من التراث الغنائي السوري البديع مُعتّم عليه”، ثم نبّهت إلى ظاهرة مهمّة فيما يتعلق بفن الغناء، وهي وجود ضعف كبير في العملية الإنتاجية الموسيقية، بينما يذهب كل الإنتاج الفني إلى الدراما.
مشروع “خيمة” الذي تعمل عليه سهير صالح مع الموسيقي وافي العباس هو عن اللهجات السورية كافة، وليس التراث فقط، أي أن السعي الآن ليس فقط للوقوف عند التراث، بل لصناعة أغانٍ حديثة بلهجات سورية متنوعة، وهذا يعني أنهم يستعيرون من التراث حيناً الفن الذي يُنسب إليه، وفي حين آخر -وهو الأهم- يستعيرون من التراث فقط أسباب نجاحه والمتمثلة هنا باعتماد اللهجات السورية الأصيلة.
بقي أن يُذكر أن هذه الفنانة الموهوبة، هي خريجة قسم التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية 2016، ولديها أعمال عدة ومشاركات جيدة في الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية المحلية.
تمّام علي بركات