سأخبر الله!؟
د. نهلة عيسى
وجهي يغالب الإرهاق، أنا لا أنام، عالمنا يتداعى، حرب، حصار، وغد يبدو بلا غد، وكأن اليوم يستنسخ نفسه، وكورونا من حولنا تسرح وتمرح، وفي كل لحظة لدي خوف، فالفقد صعب، وكيف لا أخاف إذا كانت الحقيقة في بلادنا تنتظر الفجر قرب شمعة، لتقدم اعتراضها على الاعتقاد الدائم، الواهم، بحسن نية النهار، فلا يغرنكم بياض النهار، فالأكفان بيضاء، وبطن الأفعى ناصع البياض، ولحى الشيوخ، ورؤوس الجدات، كشباك بيت لم يعد يضيء، يستوطنه العنكبوت، وملايين الخطايا تورث من جيل لجيل على أنها حكم وخبرة عيش، لكن ملامح الزجاج لا تعرف النسيان، وتكره البياض وتتخفى بالستائر!؟
النهار في بلادي ليس شمساً، إنه مجرد قناع لضوء الشمس، سراب ومرايا محدّبة، وألف وجه، ووجه لكل وجه، والبحث عن حقيقة في هذا الضباب، في هذا المدى، في بحر من البشر، سدى بعد سدى.. النهار يد تتساند على جدار الليل، وخطوة إلى الظلام، لا شيء في النهار هنا يخيفني أكثر من أنه يبدو متعرياً، وقد زاد في الآونة الأخيرة عراه، ولذلك أفكر كثيراً هذه الأيام: ماذا لو مرضت؟! ماذا لو مت وارتفعت إلى السماء؟! بماذا سأبرر للرب عيشي، بماذا سأخبر الله!؟
لا تتفرسوا في وجهي باحثين عن ملامح تثبت جنوني يا أصدقائي، لست مجنونة، وإن كنت أود، أنا وأظنكم مثلي، ومثلنا كثر، أخسر قلبي منذ عشرة أعوام، وأداري الخسارة بالعمل ومن أحب، ولكن وقائع الأيام تجبر القلب على دلدلة أذنيه كعبد أمام نخاس. يا أصدقائي، الوجع مرض عضال يعشق العتمة، ونهارنا الفاجر علم قلوبنا الطأطأة، وأريد أن أخرج بوجعي إلى العلن، لعل الشمس تطهر الجرح!؟ أنا لا أجيد التقية، ولا ادعاء التجلّد، موجوعة أنا بكل الحروف، حرفاً يمتطي حرفاً، وفاعلاً يلي فعلاً، ومجروراً بات مرفوعاً، وتساؤلاً يبدو جواباً.. موجوعة أنا ولا أهذي، ولا أبحث عن صب الزيت على الجرح، ولا جعل العمر يبدو هباءً، والصبر غباءً، وابتسامات الضحى صدأ على الشفاه!! ولا تغطية النقوش والصور بالسواد، ورسم الغد خطوطاً متعرجة، يدير لنا كتفيه مستهزئاً، إذ ماذا يفعل المغبونون، المغلوبون مثلنا، حين أقول لهم: إن الغد يوليهم الظهرَ!؟
نحن مغبونون.. نعم، محزونون.. نعم، مغلوبون.. لا لأن هناك فرقاً بين دق الجرس لينزع النهار نقابه المعتل، وبين دق الصدر، وما أقوله وأنا على قمة جبل الوجع.. هو دق للجرس، وليس إعلان وفاة، إلا إذا كنا لا نريد أن نسمع سوى ما نريد، رغم أنه لم يشق هذا البلد سوى أنه كان لا يسمع ما يجب، وما كان، وما سيكون، بل يسمع ما يريد أن يسمع!
يا أصدقائي، بماذا سأخبر الرب؟ والحرب في بلادنا مستمرة، والموت يعانق الموت على الدروب، والدم تحت أظافر النهار الطويلة، لا يغرنكم الوضوح، فالوقاحة أيضاً وضوح، والفجور وضوح، والعهر وضوح، والخيانة وضوح، ومن باعوا هذا البلد الحزين، وسرقوا أعمارنا، تذرعوا بالوضوح، وبلادنا كل يوم توضع على المقصلة، هل هناك أكثر من ذلك وضوحاً!؟
بماذا سأخبر الرب؟ ولكن ما في حياتنا يخبرنا أنه لا سعادة على الأرض، السعادة في السماء! ولذلك وجوهنا دائماً معجونة بالوجع، تقول دون أن تقول: ما معنى سعادة، ما معنى سماء!؟ الحرب لم تعد الغصة الوحيدة في البلاد، الفقر هو الحرب، هو الوحشة، وهو إعلان زاعق بالحق برفع القناع، وفي ألا يكون المرء مسؤولاً عن صراخه وسط الجموع مدعية الصبر: بكم كيلو الخيار اليوم، وبكم سيكون في الغد!؟
بماذا سأخبر الرب؟ والآه في وطننا تعانق الحجر والشجر ورغيف الصباح وحقيبة المدرسة وحذاء الطريق وعناق الرفيق وفراش النوم!! آه ما أجمل الصمم عندما يصبح كل الكلام هراء وخرفاً!؟ هل تعرفون سأعتذر عن الموت وألتزم الصمت، لأن الكلام عن الحقيقة أصعب من الموت، وأنا لم أعد أرغب بأن أكون شجاعة!؟