مجلة البعث الأسبوعية

فاجعة بيروت.. الأسباب والتداعيات والمآلات

“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن

كما أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها بيروت لفاجعة كبرى، فإنها أيضاً ليست المرة الأولى التي يتم فيها استغلال حدث أليم، سواء كان مدبراً أو عفوياً، لأغراض سياسية، وإذا كان الحدث الأشهر عالمياً الذي تم استغلاله مطلع الألفية الحالية هو “11 أيلول”، فإن الحدث الأشهر في منطقتنا كان اغتيال رفيق الحريري في بيروت ذاتها؛ وعلى غرار ما حدث حينها، ففيما انتظر لبنانيون وعرب ودوليون نتائج التحقيق المحلي المعتاد، امتلك لبنانيون وعرب ودوليون آخرون النتيجة التي يريدونها من تحقيق دولي طالبوا به قبل أن يبدأ التحقيق ذاته، والمحصلة في الحالتين استجداء وصاية دولية، كان فيلتمان الأمريكي عرابها في حالة الحريري، ويحاول الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون استلام الراية في فاجعة بيروت الحالية.

 

مفارقة التزامن مع هيروشيما

ربما كانت مجرد صدفة تزامن الذكرى 75 لمأساة، بل مجزرة، هيروشيما مع فاجعة بيروت، لكنها صدفة دالة على خطورة ما تقترفه يد الإنسان، سواء عن سابق عمد وإصرار كما في الأولى، أو عن سابق إهمال واستهتار وفساد – حتى الآن على ما يبدو – كما في الثانية، لكن ما يجمعهما هو الاستغلال السياسي، ففيما أنهت الأولى سباق الزعامة العالمية بتربع واشنطن وحيدة عليها – لم يكن لها بحسب الخبراء أي داع عسكري، بغض النظر عن الأخلاقي هنا – مع منافسة شرسة من الاتحاد السوفييتي، يراد من الثانية إنهاء استقلال لبنان الشكلي ووضعه تحت انتداب دولي سافر، لإنهاء دوره، الجزئي والفاعل، في محور إقليمي، وجرّه نهائياً إلى محور إقليمي ودولي آخر.

 

تاريخ “بيروتي” للفواجع

لكن بيروت، للأسف، ذات تاريخ أعرق في المعاناة من هيروشيما، فـ “شجرة الصنوبر”، كما هو أحد أسمائها في لغات، أو للدقة لهجات، المنطقة القديمة، احترقت مراراً وتكراراً عبر تاريخها الطويل منذ ما قبل الميلاد وحتى الآن، سواء بفعل عوامل طبيعية كالزلازل والحرائق والطاعون، أو بفعل بشر بالاسم كان منهم، على سبيل المثال لا الحصر، القاتل الكبير شارون. وعن كوارثها ومآسيها كتب المؤرخون وأنشد الشعراء من الشاعر اليوناني أغاثييس الذي نعاها كـ “وردة فينيقيا التي ذوت بفعل الزلزال”، إلى شاعرنا الكبير نزار قباني الذي حرضّ “ستّ الدنيا” على أن تقوم “إكراماً للإنسان”.

 

ماذا حصل؟

عند الساعة 5:50 من مساء الثلاثاء 4 آب، تحركت سيارة إطفاء وفرقة إسعاف من فوج إطفاء بيروت إلى المرفأ إثر ورود اتصال من غرفة عمليّات شرطة بيروت يبلّغها فيه عن حريق في العنبر رقم 12 في المرفأ، من دون تحديد طبيعته ومداه وأسبابه والمخاطر التي يخفيها العنبر الملعون، وعند الساعة الـ 6:08 كانت الفرقة، بعديدها وعتادها، في عداد المفقودين إثر انفجار العنبر بما فيه من مواد مخزنة من نيترات الأمونيوم قدرت بـ 2700 طنّ كانت كافية لإحداث ما وصفه البعض بأكبر انفجار غير نووي عبر التاريخ.

 

بداية القصة

وفقاً لموقع Shiparrested.com المتخصّص بالملاحة والبواخر وشؤونها القانونية، أبحرت يوم 23 أيلول 2013 السفينة روسوس من ميناء باتومي في جورجيا، وهي تحمل هذه الأطنان من نيترات الأمونيوم متوجّهةً إلى الموزمبيق، لكنها ونتيجة مشاكل فنية اضطرّت للدخول إلى ميناء مرفأ بيروت. وهناك بدأت القصة الغريبة التي أصبحت معروفة للجميع، بدءاً من تفريغ حمولتها بطلب من قاضي الأمور المستعجلة اللبناني بعد ادعاء مجموعة من الدائنين على المالك، مشترطاً – أي القاضي – أن توضع الحمولة “في مكان مناسب” تحت حراسة وزارة الأشغال. وبدل أن يكون مستقرّها، منطقياً، مخازن الجيش اللبناني، وجدت المواد طريقها إلى العنبر رقم 12 في العام 2014، باعتباره “المكان المناسب”، بحسب تقدير وزارة النقل.

ما حصل بعدها، ورغم توالي السنين، لا يتجاوز المراسلات والردود عليها بين إدارة الجمارك، كونها الضابطة العدلية في نطاق المرفأ، وبين قاضي “العجلة” ووزارتي النقل والمالية، دون أن يقوم أي منهم بإجراء قانوني وعملي فعلي، في ظل غياب مريب لمالك الباخرة الروسي الجنسية وللجهة الرسمية في دولة موزمبيق التي طلبت استيرادها.

 

الأسئلة

ما جرى، وهذا الإهمال والتسيّب، المقصودان في نظر البعض، يطرح أسئلة عدّة تناولها جميعاً الإعلام المحلي والدولي، تبدأ من اسم المسؤول، شخصاً كان أم مؤسسةً، عن الاحتفاظ بمواد شديدة الخطورة مثل هذه في مرفأ مدني ولهذه الفترة الطويلة؟ ثم لماذا بقيت هذه المواد في لبنان ما دامت “عابرة” كما قيل سابقاً؟ ولماذا لم ترحَّل الحمولة لاحقاً بعد معالجة أمر الباخرة التي غرقت لاحقاً؟ ومن المستفيد من بقائها؟ من يدفع بدل إيجار تخزينها؟ خاصة وأن هذا البدل يدفع بالدولار الأمريكي كما يعلم الجميع، وبالتالي، وهذا السؤال الأهم: هل هي عابرة حقاً، أم جاءت لهدف ما مرتبط بأهداف محدّدة سواء في الداخل اللبناني أو نظيره السوري؟! خاصة وأن للمرافئ اللبنانية، خلال الأزمة السورية، سوابق خطيرة في هذا المجال، وهذا السؤال الأخير تشرعنه أيضاً أسئلة أخرى من قبيل: لماذا تخلت دولة الموزمبيق الفقيرة، وهي وجهة الباخرة النهائية كما قيل، عن الحمولة ذات الثمن المرتفع؟ ولماذا تخلى مالك الباخرة أيضاً عن باخرته وحمولتها وعن طاقم ملاحيها رغم أنه لم يمض على شرائه لها إلا بضعة أشهر؟!

والأمر لا يتوقف على ذلك طبعاً، فهناك أسئلة أخرى عن حجم الخسائر الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة، جراء الانفجار، وعن البدائل المتوافرة أمام لبنان لتأمين حاجياته المعيشية الملحّة، وعن المرفأ ذاته وإمكانية إعادة تأهيله وزمنها، وعن الجهة التي ستقوم بذلك، وهذا سؤال هام جداً، خاصة في ظل استعداد الصين للقيام بهذا الأمر والموقف الأمريكي الواضح منها، ما يعني أن إجابته ستحدّد وجهة لبنان السياسية في المرحلة القادمة.

 

الإجراءات

كما هو معروف، شكلت الحكومة اللبنانية لجنة تحقيق في أسباب الفاجعة وتقديم المسؤولين عنها إلى القضاء، وكانت أولى إجراءاتها إصدار النيابة العامة اللبنانية منع سفر عن مسؤولي الجمارك والمرفأ خلال الفترة الماضية وإيقافهم على ذمة التحقيق، كما قامت الهيئة المصرفيّة بتجميد أموالهم احترازياً.

 

التداعيات

هناك نوعين من التداعيات، سياسي، وإنساني، وإذا كانت استقالة الحكومة -دفعها للاستقالة فعلياً- هي أولى “بشائر” التداعيات السياسية، وهي خطوة تضع البلد أمام رهانات عدة بعضها خطير جداً، فإن التداعيات الإنسانية كبيرة للغاية، بدءاً من الخسائر البشرية، التي لا تعوّض بثمن، مروراً بالتبعات البيئية والنفسية والخسائر المادية المهولة، وصولاً إلى أزمة غذائية خانقة تلوح في أفق لبنان خاصة في ظل المعلومات التي تقول إن غذاء اللبنانيين في 80 % منه مستورد، وأن حركة التجارة، الصادرة والواردة، تمرّ في نحو 70 % منها من مرفأ بيروت، وهذا يعني أن التداعيات الغذائية والمعيشية ستكون أخطر بما لا يقاس في المرحلة المقبلة.

 

الاستغلال السياسي

مُنذ اللحظة الأولى للكارثة، انطلق دعاة الدم لاستغلالها في مشروعهم المعلن، وفيما كان رئيسهم في البيت الأبيض، دونالد ترامب، يعلن أنّ انفجار بيروت، بحسب جنرالاته، “ناجم عن قنبلة من نوع ما، ويبدو أنه اعتداء”، وهو ما نفاه البنتاغون فوراً، انطلقت وبتزامن لافت في بيروت، وعلى وسائل إعلام الخليج المعروفة التوجه، رواية تتحدّث عن مخازن سلاح ومواد متفجرة تعود لحزب الله تم قصفها بواسطة “إسرائيل”، لتحمّل بالتالي “الحزب” مسؤولية تخزين مواد خطرة مثل هذه في مناطق مدنيّة حساسة، ليكون مسؤولاً، لاحقاً، عن كل الدماء البريئة التي سالت والخراب الذي حصل؛ ومع هذه النظرية، انطلقت على لسان ما كان يسمى “قوى 14 آذار” الدعوات إلى تحقيق دولي، لأنه “لا ثقة لنا بالحكومة ولا بالتحقيق المحلي”، في استعادة لافتة، باللغة والأشخاص أنفسهم، لـ “واقعة 2005″، وما حدث بعدها، لكن اللافت هذه المرة كان في تصاعد الدعوات، من سياسيين ومثقفين وقادة رأي عام، لتبلغ مرحلة استجداء إعادة الانتداب إلى البلاد باعتبارها قاصرة عن حكم نفسها بنفسها.

 

ماكرون الوجه اللطيف لترامب أو مبعوثه السري؟

هنا تحديداً، يأتي دور “بابا ماكرون”، ففيما يقف “لبنان الكبير” على أعتاب الاحتفال بمئة عام على إنشائه، جاء الرجل، أصالة عن نفسه وبلده ووكالة عن واشنطن، ليعيد فعلة سلفه الأسبق جاك شيراك بعد اغتيال الحريري، وإذا كانت زيارة هذا الأخير أطلقت شرارة التحقيق الدولي في قضية الحريري، وما جرى خلالها وتلاها من استغلال سياسي فاجر، فإن ماكرون جاء، على ما بدا من خطابه، ليعيد اجتراح معجزة “بابا غورو”، بتأسيس “نظام جديد” للبنان الكبير ذاته، ولكن موحّداً تحت الوصاية الفرنسية – الغربية، وبإرادتهم وشروطهم. والمال، بحسب ماكرون، موجود من “رزنامة باريس، واجتماعات سيدر والإصلاحات الاقتصادية ودعم الأسرة الدولية”، ولكنه يتوقف على المطالب الانتدابية التي غلّفها بكلام منمّق عن ضرورة الإصلاح، وحدّد لها مهلة زمنية لا تتجاوز “أسابيع قليلة”، ثم إنه سيعود في الأول من أيلول ليرى مطالبه وقد أنجزت، وإلا فلتستمر المأساة، وتلك ليست أقل من أقوال مندوب سام ولو كان هذه المرة برتبة رئيس.

ولكن، ولأن ماكرون، كرئيس لفرنسا، لا يملك المال الكافي، وبالطبع لا يملك القدرة على تأمينه وحده، فهذا يعني أن زيارته “الأبوية” – إلى جانب البحث عن إنجاز شخصي يساعده داخلياً وتعزيز دور “الأم الحنون” خارجياً – تطمح إلى احتكار صورة الممثّل الحصري، والوجه الناعم المقبول لبنانياً للولايات المتحدة وحلفائها من عرب الخليج إلى “إسرائيل”، وهي، في الواقع، بدءاً من واشنطن و”آبار بترولها”، المسمّاة دولاً، إضافة إلى صندوق النقد الدولي وسواه من جهات الإقراض الدائرة في فلكها، ستكون الجهات المانحة للمال المطلوب لإخراج لبنان من عثرته، وتلك جهات لها شروطها المعلنة: المال مقابل “تغيير قواعد اللعبة في لبنان”، بحسب مسؤولين غربيين، وتغيير القواعد يستوجب فرض مشروع تدويل سياسي واقتصادي ومالي وعسكري على البلد يبدأ من فرض السيطرة الكاملة على الحدود والمعابر والمرافق الحيويّة كالمرفأ والمطار، وهو، للأسف، ما تلاقيه وترحب به جهات داخلية لديها مشروع واحد قديم يختفي حيناً ثم يعود للبروز في مثل هذه المآسي، وهو مشروع استهداف مقاومة المشاريع الغربية بغض النظر عن اسم هذه المقاومة، وتجلّيها المادي المعنوي – وبأسلحة خارجية متى سنَح المجال لذلك.

 

مآلات

حتى اللحظة، يبدو الحديث عن المآلات النهائية للفاجعة بشقها الإنساني وبتداعياتها السياسية، الطبيعية والمفتعلة، ضرباً من التنجيم، لكن يمكن الحديث، بحذر، عن وعورة الطريق الفرنسي الذي سلكه ماكرون، فـ “الأم الحنون” لا تملك أكثر من التأثير المعنوي، فيما يواجه مشروع واشنطن، المالكة الفعلية للتأثير المادي، والمعروف سلفاً ببنوده وشروطه وإمكاناته، مقاومة شرسة من المحور المقابل، وما يدور اليوم هو سباق شرس بين الطرفين لتحسين مواقفهما وتعزيز إمكانيات المواجهة بينهما، وهي وإن كانت حتى اليوم تبدو مقتصرة على الشق السياسي، إلا أنه قد يكون لأي “دعسة ناقصة” في تقدير القوة والفرصة، أو استغلال مصلحي من طرف ثالث للفاجعة وآثارها قبل أن تبرد نيرانها، وخاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، دوراً في إشعال المنطقة بأسرها.

في الذكرى الخامسة والسبعين لهيروشيما، طالب رئيس بلدية المدينة، كازومي ماتسوي، العالم بأن لا “يسمح أبداً لهذا الماضي الأليم بأن يكرّر نفسه”. لكنه – وبيروت شاهدة – يفعلها دائماً، لتكون البشرية، سواء بفعل مقصود أم بإهمال فاسد، هي الضحية، الدائمة أيضاً، في هذا الصراع المستمر.