ثقافةصحيفة البعث

الاستشراق

محمد راتب الحلاق

يرجع المستشرقون إنجازات الثقافة العربية إلى ثقافات الأمم الأخرى، لاسيما الثقافة اليونانية، لأنهم واقعون تحت هيمنة (المركزية الأوروبية)، وإن حاولوا أن يظهروا كباحثين موضوعيين، مع الاعتراف بأن نرجسية المركزية الأوروبية قد بدأت تتخلخل نتيجة قيام الباحثين العرب بإنجاز دراسات تدحض ما دأب المستشرقون على ترويجه.

من الملاحظ أن المجتمعات الغربية، ومراكز صنع القرار والسياسات في الغرب قد عدت المستشرق خبيراً مطلق الصلاحية في شؤون الشرق ينبغي أخذ مقترحاته بعين الأهمية: “ليس من الممكن سحق المعارضة العربية كلياً، ولا التسليم بكل المطالب العربية، واستعمال إحدى الطريقتين منفردة لن يؤدي إلى تقدم مصالح الغرب في العالم العربي، حسب برنارد لويس”.

ولكن هذا الخبير، بمقتضى الإعداد الذي تلقاه، محدود المعرفة، ومحدود القدرة في التعامل مع موضوعات بحثه، ومحدود القدرة على فهم التركيبة (السياسية/الاجتماعية) للتاريخ العربي في مرحلة نشوء الفرق والمذاهب السياسية والفكرية، ما أوقعه في كثير من التوهمات والترهات، ومن المضحك أن الحكومات الغربية قد استعانت بأمثال هذا المستشرق لإرشادها في قضايا معاصرة، وكيفية إدارة المصالح الغربية في الشرق، مع تناقض هذا مع أبسط مبادئ العلم، لاسيما علم الاجتماع، لأنه يفترض أن المجتمع العربي يقع خارج الزمان والتاريخ، ولا يتأثر بالوقائع والمستجدات، فهو برأيهم مجتمع (ماهوي) مستقر في حالة واحدة حددت معالمها مرة واحدة وإلى الأبد.

وإلى جانب المستشرقين، ثمة باحثون اتخذوا من بعض قضايا الشرق المعاصرة موضوعاً لدراساتهم السوسيولوجية والاقتصادية المموّلة من بعض المؤسسات والشركات، كما وجد بعض الصحفيين الذين يكتبون مقالات متواترة عن الشرق وأوضاعه، وقد تحوّل هؤلاء إلى خبراء بعد أن فاتهم التخصص في مجالات أخرى، فالمستشرقون قدّموا صورة شمولية غير دقيقة، والآخرون لا يزيد ما يكتبونه عن تقرير مخابرات متسرّع.

وفي كل الحالات فإنه لم يكن يتم النظر إلى قضايا الشرق وبحثها بالطريقة التي يتم فيها البحث في قضايا الغرب، فالباحث في قضايا الغرب متخصص وحجة في ميدان بحثه، في حين لا يطلب من المستشرق أن يكون متخصصاً لا في موضوع بحثه، ولا في مرحلة تاريخية محددة، فمستشرق مثل (برنارد لويس) يستطيع أن يكتب، دون حرج، عن كل شيء في الشرق خلال خمسة عشر قرناً، بغض النظر عن المشروعية العلمية بالمقاييس الأوروبية ذاتها، إذ كيف يكون المرء مؤرخاً وسياسياً واقتصادياً.

محاولة معرفة الغرب للشرق لم تكن علمية خالصة ولا بريئة، ولا لوجه المعرفة الموضوعية، فبعض المستشرقين توالفت فيهم العوامل المعرفية مع العوامل السياسية والنفسانية، فجاءت كتاباتهم مخالفة للمعرفة التاريخية العلمية، (حسب ادوارد سعيد)، الأمر الذي حوّل الاستشراق إلى مشكلة مركبة (ذهنية/ فلسفية/ نفسانية)، إذ كيف يسمح عارف لنفسه ألا يكون عقلانياً مع أنه قادر على ذلك، فيلجأ إلى إنشاء توهمات عن الآخر، بقصد إنكاره لا بقصد معرفته على حقيقته، فتكون كتاباته إنشاء مبنياً على أفكار شائعة، وعلى أحكام مترسبة في لاشعور قارئيه الغربيين، بدل أن ينتج وعياً مطابقاً لمجتمعات واقعية وتاريخية.

انطلق الاستشراق من الحقيقة التي تقول: معرفة الشرقيين تجعل حكمهم سهلاً ومريحاً، فالمعرفة تمنح القوة، لكن أكثر من كتب عن الشرق من الغربيين لم يكن مؤهلاً من الناحية العلمية والمنهجية لذلك، من دون أن ننكر أهمية بعض تلك الكتابات.

أرجو ألا يفهم من كلامي أنني من الذين يبخسون الناس أشياءهم، فللاستشراق فضل كبير لا يمكن نكرانه، فقد عرّفنا على كنوز تراثنا، وأمدنا بأدوات منهجية ساعدتنا في إعادة تقويم كثير من الأحداث والمواقف.