التشكيل بوصفه نصّاً
د. نضال الصالح
لا تحيل لوحة التشكيلي السوري أحمد الصوفي على مدرسة أو اتجاه أو مذهب محدد على الرغم من أنها توهم بانضوائها تحت راية تعبير جماليّ سائد أو مهيمن، وعلى نحو تحقق معه فرادتها التعبيرية الخاصة بها، منتمية إلى نفسها من جهة، ومنجزة من جهة ثانية ما يطمح أيّ مبدع إليه، أي حيازته الأسلوب الدالّ على هويّة تميّزه من سواه من المشتغلين في فضاء تعبيري واحد.
ولا تتحدد أهمية اللوحة الصوفية، نسبة إلى مبدعها وليس إلى التصوف على الرغم من التجلّي الرمزيّ لهذه الفلسفة في غير لوحة من تجربة الفنان، فيما سبق فحسب، بل، أيضاً، في كفاءته العالية في التعبير عن الواقع بوحدات تشكيلية وقيم لونية يمثّل الإنسان متناً في مفردات عالميها الواقعي والتخييلي اللذين غالباً ما يتجاوران في اللوحة الواحدة جنباً إلى جنب بإيقاع جماليّ خالب، ودالّ على ما يمكن وصفه بمرثية شديدة الهجاء للعالم الأول، وأغنية باذخة التوق إلى المثال والمطلق فيما يعني الثاني. ولعلّ أبرز ما يميز العنصر الإنساني في تشكيل العالمين، ولاسيما المرأة، ملامحه الطاعنة في غربتها عن الواقع، بل لا واقعيتها على نحو أدقّ، رغبة من الفنان في تعميم مثالها على الواقع الذي يبدو في مجمل اللوحات مرهقاً بالوجع كما لو أنّ اللوحة أشبه بصرخة احتجاج ضدّه، بل هجاء شديد المرارة له، وسيمفونية حنين إلى الإنسانيّ الضائع منه والمضيَّع فيه.
ويمكن التمثيل لذلك بلوحة تتضمن عنصرين نسويين يتصدران اللوحة في الثلث الأسفل منها، وتفصل بينهما مسافة واضحة، وخلفهما مساحة شاسعة تغلب عليها صفرة فادحة تخالطها حمرة خفيفة وتنتهي بزرقة مائلة إلى السواد قليلاً، بينما يتجلّى وجه المرأتين كلتيهما مثخناً بما يُصطلح عليه بالأسلبة، أي الأثر الفادح للواقع فيهما، لكأنهما، الوجهان، صورة هذا الواقع وقد أسفر عن قسوته ووحشيته ونأيه عن قيم الحقّ والخير والجمال، بل هذه الأخيرة وقد تمّ تصفيدها بأغلال لا يمكن الفكاك من أسرها لأنّ الواقع الذي تحيل عليه محكوم بقوى سالبة للإنسانيّ في الإنسان، ولاسيما بالنسبة إلى المرأة التي شاءت أقدارها لها أن تحيا في مجتمعات مفوّتة حضارياً، وأن تدفع، بسبب ذلك، ضرائب باهظة كلّما حاولت أن تكون نفسها، وأن تتحرّر من قيود الوعي الذي يضبط حدود الفضاء الذي تتحرك في مجاله.
وبما سبق من محاولة التحليل يمكن القول: إنّ لوحة الصوفي المترفة بصيغها الجمالية العالية ليست تشكيلاً فحسب، بل هي أيضاً نصّ فكريّ يحرّض متلقّيه على إمعان النظر في المفردات المكوّنة له، وعلى قراءة اللوحة بوصفها مغامرة في المعرفة كما هي مغامرة في التشكيل، وما مِن ريب في أنّ هذه سمة دالّة على أنّ الفنّان، المبدع بحقّ، لا يعيد إنتاج العالم تشكيلياً فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى تفكيكه ومن ثم تركيبه رؤية ورؤيا بآن.