التعريب الروائي بين الاستسهال والتشويه
يشكّل فن الرواية دون غيره من الفنون الأدبية الأخرى مجالاً رحباً للترجمة، يخوض من خلاله المعرّبون تجارب كتابية تترك أثراً في الثقافة العربية، لكن عدداً غير قليل من هؤلاء المترجمين يتصدّون لهذه المهمّة دون الأخذ بالحسبان امتلاك ناصية إعادة كتابة النص الروائي وفق الصيغة الحسيّة والدلالة الفكرية للنص الأصلي، فمن يقرأ رواية “البؤساء” للفرنسي فيكتور هيجو بترجمة منير البعلبكي بعدد صفحات تتجاوز الألفي صفحة، لابد وأن يستشفّ الفارق الكبير لغةً وتراكيبَ أدبية مع ما تلاها من ترجمات مختزلة لحقت بها لم ترقَ لسويتها أو تكون أمينةً في نقل تحفة إنسانية خالدة، وكذلك من يقرأ أعمال دوستويفسكي أو تولستوي بترجمة سامي الدروبي، على سبيل المثال، لن يستطيع تشويه الأثر الذي تركته في نفسه من خلال المغامرة بقراءة تعريب آخر مغاير لها أقل سوية منها، رغم أن سامي الدروبي لم يعرب تلك النصوص عن لغتها الأم بل عن الفرنسية، لكنه استطاع بحسّه الأدبي العالي ولغته المتقنة إعادة بناء النص وتركيبه وفق عناصر روائية متينة، وكذلك ما قدّمه صالح علماني بالنسبة لعدد من سرديات أمريكا اللاتينية.
ولهذا نلاحظ أن الكثير من المغامرات التعريبية وضعت القارئ العربي في حالة من خيبة الأمل تجاه أسماء روائية عالمية كبيرة كان ينظر إليها كحالة إبداعية فريدة في التشويق والإمتاع، دون أن يضع اللائمة على مترجم استسهل العبث بنص مهمّ، فنقله وفق صياغة حرفية خالية من الحسّ الأدبي والبناء السردي السليم، حيث هناك نصوص تفتقر ترجمتها لخاصية امتلاك القارئ والاستحواذ على وعيه المتواصل مع النص، بسبب ركاكة الترجمة وحرْفيّة النقل الموسوم بالجفاء العاطفي في السرد والحوار.
إن عدم الإلمام بتقنيات الترجمة ومقوماتها الإبداعية، كثيراً ما يحرف النص الأصلي عن معناه الأساسي، ويبعثر عرى تماسكه، وإغراقه في متاهات وطلاسم تجعل القارئ عاجزاً عن اقتفاء أثر أفكاره ودلالاته وتركيز انتباهه معها حتى النهاية. فمن يعتقد أن إجادة لغة أمة من الأمم تخوّله خوض غمار ترجمة آدابها، هو واهم ومتجنٍ عليها وعلى آدابها، لأن الترجمة لا تشترط بالمترجم إتقان اللغة وحسب، بل أيضاً الإحساس بالنص والشخصيات، ومعايشة الحبكة، والمقدرة على إعادة صياغتها بالأسلوب التشويقي ذاته أو التفوّق عليه، كما فعل مترجمون مهرة وضعوا بين يدي القارئ العربي أيقونات أدبية خالدة.
ما تقوم به العديد من دور النشر العربية الخاصة والرسمية من استسهال لفن الترجمة فيه تجنٍ على النص المترجم وعلى القارئ معاً، فالرواية التي تأخذ شيئاً من ذات كاتبها، كما يقول نجيب محفوظ “هي مزيج بين الواقعي والمتخيل”، لا يستطيع غير المترجم المبدع الوصول إليه ومعايشته بإحساس المؤلف وعاطفته، والتي يجب أن تصل إلى القارئ ويشعر بها وينفعل معها، هذا إلى جانب القدرة على نقل روح المكان والزمان التي تحتاج إلى حدّ ما إلماماً معرفياً بهما، معايشةً أو استدراكاً ثقافياً.
الترجمة عن الآداب الحيّة هي إعادة تأليف ورسم عوالم، الفشل فيهما فشل للترجمة والنجاح فيهما نجاح في استنساخ نص متكامل العناصر، نضجه وغناه يغني ثقافتنا ويضيف عليها.
ترجمات كثيرة صدرت في السنوات العشرين الأخيرة كان الاستسهال والاستخفاف سمتها الأساسية، أساءت إلى نصوص روائية عالمية يفترض أن المساس بها على هذا النحو من المحرمات، لكي لا يفقد القارئ العربي القادم ثقته بالذائقة الأدبية لمن قبله، الذين مهدوا له الطريق لتلقفها بناء على ترجمات خلاّقة.
آصف إبراهيم