مجلة البعث الأسبوعية

عطر الليل

 

جوان جان

شهد عقدا الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي صعود وازدهار المسرح الاستعراضي الغنائي في العالم العربي، وتحديداً في لبنان، من خلال المسرح الذي اقترحه الأخَوان رحباني على جمهور المسرح العربي، وحققا من خلاله نجاحاً منقطع النظير، كان ركيزته الصوت الذهبي للفنانة فيروز التي اضطلعت ببطولة تلك الأعمال المسرحية التي تم تقديمها في لبنان وسورية بشكل أساسي، ولا يزال جمهور البرنامج الفني لمعرض دمشق الدولي يتذكر تألق الفرقة الفنية الرحبانية بعروضها المتألقة غناءً واستعراضاً وجرأةً في المواضيع التي قدموها.

من أهم سمات المسرح الغنائي الاستعراضي الذي قدمه الرحابنة اعتماده على صوت فيروز كرافعة للعروض المسرحية، بالإضافة إلى بعض الأصوات الغنائية الأخرى التي لم تنل ما نالته فيروز من مجد وشهرة، هذا عدا عن عناصر الفرقة الراقصة من شباب وشابات متمرسين بأداء فنون الرقص الشعبي اللبناني، في وقت أُخِذ على تلك الأعمال المسرحية الاستعراضية ضعف المادة الدرامية فيها، وهو الأمر الذي لم ينكره القائمون عليها ليقينهم أن الهدف الأول كان تقديم الفن الغنائي والموسيقي للأخوين رحباني، وليس تقديم أعمال درامية تنافس مثيلاتها من التجارب المسرحية العربية التي تألقت بدورها في ذلك الزمن والتي كان مهرجان دمشق المسرحي شاهداً على معظمها.

من أهم الأعمال المسرحية التي قدمها الرحابنة وفيروز نذكر مسرحية “بيترا” التي تروي حكاية البطولة والصمود في وجه الغزاة والطامعين، وكيف يتحول الضعف إلى قوة في الملمّات والأزمات؛ كما نذكر عناوين أهم أعمالهم: “جبال الصوان” و”الشخص” و”ميس الريم” و”ناس من ورق” و”صح النوم” و”هالة والملك” و”جسر القمر” و”ناطورة المفاتيح”. والواقع أن تجربة الرحابنة وفيروز في المسرح الاستعراضي تكاد تكون وحيدة زمانها في مسيرة المسرح العربي، ربما باستثناء التجربة الرائدة لرائد المسرح السوري والعربي أحمد أبو خليل القباني في كلّ من سورية ومصر، في الثلاثين سنة الأخيرة من القرن التاسع عشر، نظراً لما يتطلبه المسرح الاستعراضي الغنائي من إمكانيات بشرية هائلة ومادية باهظة باعتبار أن هذا النوع من المسرح لا يحتمل التقتير في متطلبات العرض التي يجب أن تكون متكاملة وأخاذة وجذابة.

وقد يكون صحيحاً قولنا أن أحداً بعد الرحابنة لم يحاول تناول النصوص التي كتبوها برؤى فنية متجددة، وشذَّ عن القاعدة المخرج المسرحي السوري يوسف شموط، الذي تعرف أعمالَه المسرحية مسارحُ حماة مدينةً وريفاً، حيث سبق وأن قدم فيها عدداً كبيراً من الأعمال المسرحية تم عرض بعضها خارج حدود المحافظة وهي أعمال درامية بحتة نهلت مواضيعها من عيون الأدب المسرحي العالمي والعربي والمحلي؛ لكن شموط في السنوات الأخيرة أخذ ينحو منحى مختلفاً من خلال خوضه غمار مغامرة مسرحية بكل معنى الكلمة، عندما أخذ يتناول نصوص الرحابنة المسرحية ويقدمها برؤى فنية جديدة، كما في عرض “عطر الليل” الذي استضافته مديرية المسارح والموسيقا مؤخراً على خشبة مسرح الحمراء بدمشق.

“عطر الليل” مستوحاة من مسرحية الأخوين رحباني “أيام فخر الدين” التي قدماها في أواسط ستينيات القرن الماضي، وحققت حينذاك نجاحاً كبيراً، وقد وجد المخرج شموط في نص هذه المسرحية ما دفعه لتقديمها في الظرف القائم حيث تتهدد الأخطار الوطن من كل اتجاه.

تألقت في العرض الفرقة الاستعراضية “رمال للمسرح الراقص” التي قدمت مجموعة من الرقصات التي عكست المستوى المتقدم للتدريب الذي نالته الفرقة على يد المصممة والمدربة غيداء محمد، كما تألقت مجموعة الممثلين الذين جسّدوا شخصيات العمل، وأخص بالذكر الفنانة ساندي جربوع التي جسدت الشخصية التي جسدتها فيروز في المسرحية الأصل، وقد ملأت جربوع الفضاء المسرحي بحيويتها ورشاقتها، وكانت بالفعل نقطة الارتكاز في المشهدية المسرحية دون أن نغفل الجهود الجماعية المشتركة لأسرة العمل الفني دون استثناء، كما استحوذ صوت المغنية ساندي جروج على بالغ الإعجاب بسبب أدائها المتقن لأغاني فيروز.

بقي أن نذكر أن هذه هي التجربة الثالثة للمخرج يوسف شموط في إعادة الروح لمسرح الرحابنة بعد تقديمه لمسرحيتَي “المحطة” و”ناس من ورق”، في وقت سابق، على مسارح حماة، بعد مسيرة مسرحية طويلة قدم فيها عدة أعمال مثل: “السيدة الفاضلة” و”السيد صفر” وقبل أن يذوب الجليد” و”ضوء الشمس” و”الموت والعذراء”.