“شُبّهَ لي أنتَ”.. خطوة نحو كتابة جديدة مغايرة
تسعى الشاعرة ريما عفلق في نصوص كتابها “شُبّهَ لي أنتَ” التي سمّتها “ومضات” إلى ارتياد مساحات مفارقة مغايرة تنزع نحو كتابة جديدة تراوح بين الشعر والنثر دون أن تنتمي إلى أي منهما، وفي ظنها أن كثافة التعبير، وضغط الفكرة، وقصر الجمل، ودلالاتها المفتوحة على التأويل، قادرة على تقديم نص متحرّر من أي تجنيس، وهذا في زعمنا مغامرة قد توقع الكاتب والمتلقي معاً في شرك البحث عمّا يريد هذا النص قوله، أو إيصال القارئ إليه!.
أكثر من مئتين وسبعين نصاً ضمّها الكتاب، حاولت عفلق جاهدة شدّها إلى ناظم واحد هو الموضوع، وقد نجحت في ذلك إلى حد ما، غير أن البحث عن شكل فني محدّد ومتقارب أربك نصوصها وأضاع هويتها، لنتساءل: هل يا تُرى كانت تريد تقديم مأثور أو حكمة أم دفقة سردية أم قصيدة آثرت أن تشرك القارئ في إتمام نهايتها، أو البناء على مضمرها ومآلاتها، بما يلبي ما تشتهي قوله أو البوح به ولو همساً؟ فعدا نص “أحبكَ تعني” ص45 الذي يبدو أنه مشروع قصيدة غير مكتملة، سنجد أن الشاعرة انحازت كثيراً إلى الكثافة في القبض على اللحظة الشعرية وتأبيدها، وتمكّنت بما تملك من حسّ إبداعي من توظيف مجموعة من الانزياحات والاستعارات والصور البليغة لإضافة مسحة جمالية على نصوص الكتاب، وأتقنت ذلك مثلاً في نص “نزف” ص8، تقول فيه: ها أنا أنزفكَ عشقاً.. حتى الرمق الأخير من الحب، أو نص “أريكة” ص16 وقولها: يا لهذا الليل الطويل من دونك.. أتوسّد فيه أريكةً من قلقٍ.. بانتظار لهفة اللقاء.
وفي نص “رحيل” ص30 ستتوقف الشاعرة عند شهر أيلول لتحكي عن وجعها بالقول: لا يبكيني سوى شهر أيلول وأنتَ.. وها قد رحل أيلول وبقيت أنتَ. وهنا يمكن للقارئ أن يبني على مضمر هذه السردية ما يشاء من حكايات، واستدعاء ما يريد من صور الماضي وذكرياته، ولاسيما تلك التي تشبه شهر أيلول أو ربما فصل الخريف الذي سيغدو فصلاً من الفصول التي تستحضرها الشاعرة في أكثر من نص.
أما في نص “شفاه الطلّ” فإنها تذهب نحو لحظة مدهشة بقول أكثر إدهاشاً: كن سخياً كشفاه الطل.. حين يداوي أنين البنفسج بقبلة، فيما تبدع في بناء صورة مركبة في نص “عتمة ليل” ص27 بقولها: كل عام وأنت ليلي.. ليلي الذي يتعثّر في عتمته بقبلةٍ طبعها على جدار الروح ذات شوق، بل وتتسامى كثيراً في تناصاتها مثلاً في نص “امرأة من نور” ص29 فتقول: لأني امرأة النور.. يمّم الروح شطر قلبي.. واتل ما تيسّر لك من آيات العشق، أو نص “نعمة” ص84 وقولها: لأنك نعمة من ربي صامتة أنا.. فبالصمت تدوم النعم!.
على أن ما سيطغى على موضوع النصوص بمجملها هو الحنين والشوق إلى ماضٍ يبدو مجهولاً فيه القليل من الأمل والكثير من الخيبة والخوف والانكسارات، مع حاضر يعجّ بلحظات الفقد والحزن والغياب، تقول في نص “اغتيال” ص6: لأني امرأة دمشقية الهوى.. سأدوّن على أوراق الحكايات بوح أنثى أضناها اغتيال الوطن، وفي نص “دنان الصمت” ص18 تستدعي ذلك الحزن مستعيدة آلامه وجراحه بالقول: عتّقت في دنان الصمت حزني.. فأنت لم تكن عابراً يوماً إلا على جرحي ونزف قلبي، وسيتماهى هذا الحزن الذاتي مع حزن الوطن المذبوح لتختزله ريما عفلق بالمدينة الغافية الموجوعة، فتقول في نص “كفاكَ” ص52: كفاكَ يا حزنُ.. لا مزاج لي بعد اليوم لتجرع كأسٍ من مرِّ ذكرياتك.. فمدينتي الغافية على كتف القمر أرّق جفونها الوجع، وستختصر هذا الوجع كله بقولها في نص “قلبي” ص58: حزين وجه هذي البلاد كقلبي، أو في نص “وطني” ص61 وقولها: أدمنتك يا حزن.. فغدوتُ كمدينة مقطعة الأوصال تنزف صبراً كما أنت يا وطني.
وفي مقابل محاولتها بناء نصوص مغايرة، تقع الشاعرة في غير نصّ تحت غواية الكتابة وحسب، فتلجأ إلى السجع أحياناً والمحمول على جمل قصيرة جداً كما في نصوص “ملاك أم بشر؟” ص12 أو “مركب الهوى” ص40، أو تقفية جملها بقوافٍ ورويّ ما دون الحاجة إلى ذلك في النص النثري كما في نصوص “معك” ص24، و”النبضة الأولى” ص48، و”يحدث أن” ص83، أو “أضغاث أحلام” ص99.. وسواها.
أخيراً.. على الرغم مما سبق يمكن القول: إن ريما عفلق في كتابها الثاني “شُبّه لي أنتَ”، وسبقه كتابها الأول “ولظلك عطر”، ماضية في مسيرتها الإبداعية بحثاً عن كتابة مغايرة وشكل فني مختلف، وقد نجحت إلى حدّ ما بخطوتها الجديدة في التأسيس لذلك كله.
عمر محمد جمعة