ثقافةصحيفة البعث

قصة التهويدة الخالدة “يالله تنام”

“يالله تنام يالله تنام لدبحلا طير الحمام” تهويدا يحفظها الصغار قبل الكبار، منذ أجيال بعيدة لم تزل هذه الأغنية أو التهويدة، هي الأداة السحرية التي تجعل أعين الأطفال تغفو ملء جفونها على إيقاعها المتهادي كموج بحر خفيف، إلا أن الكثير ممن رددها ويرددها، لا يعلم أن خلف تلك الأغنية الوديعة مأساة إنسانية مشبعة بالحزن والألم والفراق حدثت في مدينة معلولا!

أحداث القصة المؤلمة التي تقف كظل دام خلف الكلمات العذبة واللحن الرقيق، وقعت في مدينة معلولا الشهيرة، طفلة في ريعان طفولتها تم اختطافها من بيت أهلها، في الوقت الذي كانوا فيه مشغولين بالعناية بأرزاقهم من الثمار كالخوخ والمشمش في وديان بعيدة عن المدينة، حينها جاءت مجموعة من الغجر الذين يجوبون مختلف الجغرافيا، وفي ذاك الوقت حطوا رحالهم حول أطراف المدينة، وقاموا بالبحث بين الساحات والبيوت عما يستنفعون به، ليجدوا الطفلة وحيدة في المنزل، فقاموا بخطفها.

الطفلة التي تم خطفها هي أخت الشماس وكان يدعى “عيسى”، حرقة دم الأهل في بحثهم عن ابنتهم لم تفدهم في شيء، فالغجر الذين خطفوها، غادروا المكان فورا.

جرت الأيام وتعاقبت السنون، وفي أحدها كان بائعا جوالا من معلولا “جبل الحلو” يبيع العنب والتين في المنطقة التي حلت فيها قبيلة الغجر تلك، استطاعت الفتاة التعرف على الرجل، لكنه لم يعرفها، لذا وفي لمح البصر قامت بارتجال عدة مقاطع شعرية هي مزيج من الآرامية التي لم تزل حتى اليوم مستخدمة كلغة في معلولا، وبين العربية، وذلك أملا منها أن تلفت انتباه الرجل، وطلب النجدة منه، ليتعرف إليها، دون أن تلفت نظر القبيلة.

انتظرت لحظة مرور البائع حيث هي، ثم شرعت بالغناء لطفلها وليس لطفلتها كما ورد في أغنية السيدة فيروز “هيوهي ويالبنيي المزين عنبي، مليه لبي ملي لمي نغبوني العربي، بايثح كم الكليساحوني شموسا عيسى، بقرتنا حمرا نفيسة وكلبنا اسلك سلوكيي الله ينام يالله ينام لادبحلو طير الحمام”.

أما المعنى بالعربية: “هيه هيه يابياع العنب، خبر أبي وخبر أمي خطفني الغجر، بيتنا بجانب الكنيسة وأخي الشماس عيسى، وبقرتنا حمراء سمينة وكلبنا نحيف سلوقي”، فهم البائع المعلولي مغزى الكلام، وتعرف على الفتاة، وقام بنقل رسالتها إلى أهلها، متلهفاً لأخبارهم بمكانها وأنها حية ترزق، ولما اتجه الأهل إلى تلك الديار لاسترجاع ابنتهم، لم يجدوا أحدا، لقد رحل الغجر إلى مكان آخر.

الحسرة وكسرة القلب ظلت مترسبة في قلوب الأهل، وخلدت تلك الكلمات البسيطة العميقة المليئة باللهفة والأشواق ذكرى الطفلة بين أهلها والملايين غيرهم.

وصلت القصة إلى الأخوين رحباني فقاما بإعادة صياغتها وغنتها السيدة فيروز بصوتها الخالد في فيلم “بنت الحارس”: “يا بياع العنب والعنبية، قولوا لأمي وقولوا لبيي، خطفوني الغجر من تحت خيمة مجدلية/ ع التيشتشي التيشنشي والخوخ تحت المشمشة، كل ماهب الهوى لأقطف لريما مشمشة،هي هيهي لينا دستك لكنك عيرينا تنغسل تياب ريما وننشرهن عالياسمينا” إلى آخر الأغنية.

غابت الفتاة التي أصبحت أما غنت لابنها تهويدة لينام، وهذه التهويدة تحمل رسالتها إلى أهلها أملا بأن تعود إليهم، وبقيت تلك التهويدة خالدة، ترددها ملايين الأمهات كتهويدة مقدسة قبل النوم.

قام بنقل تلك الحادثة إلى مشروع التوثيق البصري الأستاذ جورج رزق الله عام 2014، وهو أستاذ للغة الآرامية من مدينة معلولا.

إعداد: تمّام علي بركات