الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

عوالم الوهم..!

حسن حميد

ما يحير بالي، ويجعل قلبي يقفز من صدري هو ما يتمثل بالموجة الجديدة من النقّاد الذين يحاولون بيان أهمية المكتوب الإبداعي في بلادنا العربية، فهم لا يتحدثون عن أعمال الأدباء الكبار وما أسسوا له من بنيان إبداعي مكين، أمثال نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، وجبرا إبراهيم جبرا، وحنا مينه، ونزار قباني، والسياب.. وإنما يتحدثون عن الأعمال الصادرة حديثاً، وهي كثيرة جداً، بعدما غررت بالخلق جميعاً وسائل الاتصال الاجتماعي، وقالت لهم تأييداً بأنهم كتّــابٌ، وإلا لماذا هذه التعليقات، وحالات الإعجاب المختلفة (كلاماً وصوراً) التي تذيل نصوصاً لا علاقة لها بالنصوص، وكتابات لا علاقة لها بأي نضير أو مشتهى؟!

والمدهش أن هؤلاء الجدد في ظاهرة النقد الأدبي يتحدثون عن مرجعيات أجنبية، وهم لا يعرفون لغة أجنبية واحدة، ويتحدثون عن عوالم أدبية، مثل عالم بروست الأدبي، نسبة إلى مارسيل بروست الفرنسي، وعالم كافكا الأدبي، نسبة إلى فرانز كافكا التشيكي، وعالم فرجينا وولف الأدبي.. وهكذا، وهم في ظني، وبعض الظن إثم، لم يعرفوا مارسيل بروست في روايته الوحيدة المخيفة بسذاجتها (البحث عن الزمن المفقود) لأنها لم تترجم كاملة في أي بلد عربي (في سورية كانت محاولة ترجمتها كاملة من قبل مترجمَين، بعد انقطاع سنوات بين تجربة المترجم الأول والثاني، وقسم من أجزاء الرواية صدر في سورية، وقسم منها صدر في القاهرة).

النقاد الجدد يتحدثون عن عالم بروست الجميل، والإبداعي، والمفيد، والعقلاني، والتشكيلي.. وأنا لعمري، أقرأ كتاباتهم، بعد أن آخذ أدوية مساعِدة، لكي أعرف ما هو عالم بروست الأدبي، ولكنني أخرج من هذه القراءات من دون أن أعرف شيئاً عن هذا العالم الجميل، والإبداعي، والمفيد، والعقلاني، والتشكيلي، بل لم أعرف تلخيصاً، حتى لو كان ناحلاً، عن موضوع الرواية، فهم يكتبون كتابة أسميها بالكتابة الدورانية حول النفس، من أجل أن تزهق الذات القارئة لأن لا قناعة ولا متعة ولا منطقية في جلّ هذه الكتابات، إنهم يحبون عالم بروست الأدبي من دون أن يصرحوا لماذا، ويقولون إنه عالم مدهش من دون أن يضعوا أيديهم على مواضع الدهشة، ربما الفرنسيون يعرفون أهمية بروست، وبصعوبة كما أظن، ولا سيما في روايته التي منحته الشهرة (البحث عن الزمن المفقود) وإلا لماذا رفضت دور نشر عدة أن تطبعها في زمنها، ولماذا ازوَّر عنها أدباء وكتّــاب معروفون في فرنسا بعد أن أعيتهم الحيلة لكي يعرفوا ما فيها، أو لكي يضعوا أصابعهم على ما فيها من أهمية؟!.

والأمر العجيب الغريب هو هذا الحديث المتطاول والمتزايد أيضاً عن عالم كافكا، وهو أديب لم تترجم أعماله كلها إلى العربية حتى هذه الساعة، النقّاد الجدد يتحدثون عن عالم كافكا الكابوسي، والغامض، والمتوجس، وما فيه من خوف من العالم، ومن الآخرين، حتى الخوف من الأمكنة، وهم لا يعرفون لماذا هذا التوجه الذي مشى به كافكا طوال الحياة القصيرة التي عاشها، إنهم يسردون سيرة حياته التي كتبها الآخرون عنه.

إن هذه الموجة الجديدة من النقد، وما فيها من ترديد لمحفوظات، ومنقولات، ومقبوسات من الآخرين، أصحابها واهمون مثلهم لأنهم نقلوها أيضاً عن غيرهم، هي ضارة، بل كثيرة الضرر لأنها خادعة، تخدع الأجيال الأدبية حين تقول لهم إن عوالم كتاباتهم (ومنذ الكتاب الأول) تشبه عوالم كتابات كافكا وبروست وولف، وهم لم يعرفوا هؤلاء بعد لأن تجربتهم ما زالت في أولها، والضرر هو القول إنهم ينتمون أدبياً إلى البيت الكافكاوي أو البيت البروستي أو الولفي! ترى أي كارثة هذه، وأي حداثة، وعصرنة في هذه الكتابات النقدية الطالعة علينا في زمن التواصل الاجتماعي؟ لا أدري، ما أدريه هو أن نبتة الخرفيش الشوكية، تظنُّ أنها النبتة الأجمل والأبهى في ربيع طويل عريض محتشد بالزهور!

Hasanhamid55@yahoo.com