واجب المؤسسات العلميّة في تنمية الوعي والعقلانية
د. عبد اللطيف عمران
كان .. لجامعاتنا دور مهم في حركة التحرر الوطني والاستقلال العربية، فأنجزت كمؤسسات وطنية وأكاديمية المنشود منها في خدمة الشعب والدولة والأمة. ولطالما حفلت بأساتذة وطلاب أكفياء أسهموا بدرجة واضحة وكبيرة في نشر الوعي والعقلانية وتعزيز الهوية الوطنية والقومية، وتطوير مؤسسات المجتمع والدولة، وكذلك في محاربة الفكر المتخلّف المتكئ على التطرف والتجزئة والرجعية والاستعمار وأدواته وأهدافه أيضاً.
لكن من يتبصّر في واقع الوطن والأمة في السنوات الأخيرة من حيث ضعف مَنعة المجتمع والدولة، وقوة الانفعال وسيطرة غريزة القطيع المعززة بغياب العقلانية وضعف الوعي وتراجع الفكر والتفكير المستنيرين، فإنه يجد العجب العجاب مما لم يكن متوقعاً ولا يخطر في البال مع هذا النكوص نحو الخلف عقوداً من السنين بل قروناً من الزمن، إذ غابت مفردات النضال والتقدم والتنوير والتحرر والعلمانية … إلخ، وحضرت مكانها مفردات التكفير والتكبير والهجرة والجهاد والسيف والذبح والطائفة والمذهب والعرق …
فما جرى ويجري في هذه الأقطار لم يأت من فراغ، وصحيح أن قصور العامل الذاتي هو من أهم أسبابه – كيلا نلوذ فوراً بنظرية المؤامرة – لكن للحقيقة لا يجوز نكران الخطط المرسومة بدقة والمنطلقة من البحث العلمي ولا سيما في اتجاهه السوسيولوجي من قبل دوائر الاستعمار القديم والجديد بنزوعه الاستشراقي المستمر والذي تعدّه مؤسسات علمية أكاديمية موظّفة من حكومات صهيو أطلسية، ومراكز أبحاث مرتبطة بدوائر استخبارات هذه الحكومات.
والمشكلة أن أغلب هذه الخطط معلن، ومفضوح، ومردود عليه، ومنبّه منه في نسق من مؤلفات العقلانيين العرب خاصة في القرن الماضي على نحو ما نحظى مثلاَ في مؤلفات إدوارد سعيد، ومنها مثلاً: الثقافة والإمبريالية – الاستشراق، هذا النسق من التفكير والتأليف طرد الفكر المتخلف وهزمه في المكتبات والجامعات والمجتمع والأحزاب والنقابات لسنين طويلة، وللأسف ها هو اليوم يعود بأبشع صوره نظرياً وممارسةً … فكان ما دُعي بالربيع العربي
والمشكلة الثانية المهمة واللافتة هي أن بلداً متقدماً متنوراً طالما كان حاضنة للوعي الوطني والقومي، ومنبراً راسخاً لمحاربة الجهل والتخلف والتجزئة والتطرف مثل سورية يقع اليوم ضحية الأمرين الأمرّين معاً: قصور العامل الذاتي – الاستهداف والمؤامرة. وهذا خسارة للوطن والأمة والشارع العربي وللرأي العام، وإذا كان لا يمكن لعاقل أن ينكر أثر الحرب والعدوان على الشعب ومؤسسات المجتمع والدولة مقابل هذه التضحيات الجسام الطهورة تاريخياً، فإنه لا يمكن أيضاً التغافل عن الظواهر السلبية التي انتشرت وازداد شرّها وشررها في أوساط عديدة، ما يتطلب تضافر جهود مؤسساتية وفردية لتجاوز الآثار السلبية الناجمة عن مخاطر الأمرين السابقين معاً.
فهناك اليوم كثير من الآراء التي تحمّل النظام السياسي بما فيه من أحزاب ومنظمات ونقابات وسلطات تنفيذية وتشريعية.. مسؤولية هذه المخاطر والآثار، وتتناسى دور الجامعات ومؤسسات البحث العلمي الذي يكاد يكون غائباً أمام واجب تنمية الفكر العلمي، والرأي الحر المستنير، والعقلانية وثقافة التقدم والتنوير في مواجهة الظلامية والتخلف والتطرّف التي تعمل على تحويل صروحنا العملية إلى تكايا عثمانية، ومعاهدنا ومدارسنا ومجتمعنا وحوارات السوشال ميديا إلى حواضن للتكفير وتربية النزعات الإجرامية والترويج للتزمت الوهابي. متناسين أن أساتذتنا ورفاقنا وزملاءنا هم الذين كرّسوا أنفسهم وحياتهم من أجل العلم والمعرفة وليس ابن باز ولا العُريفي ولا القرني ولا القرضاوي أصدقاء ابن لادن والظواهري والبغدادي والجولاني وحمد وتميم وأردوغان.
فسورية لم تتحمل كل هذه الخسائر، ولم تشهد كل هذا الدمار لتعود إلى العصور الوسطى، وهي التي وافقت على علمانيتها وعن إسلامها المتنور في وقت واحد، وكان العلمانيون فيها ورجال الدين المستنيرون جنباً إلى جنب في الدفاع عن الشعب والوطن والأمة، وعن التسامح والعيش المشترك والوحدة الوطنية، وعن الإنسانية أيضاً ضد الانحطاط الوهابي والداعشي والأردوغاني الفكري والأخلاقي والسياسي.
فلا يمكن تفسير لجوء بعض (المتعلمين) ومنهم أكاديميون يدرّسون الأجيال في الجامعات إلى التمسّح بأهداب القشور الدينية، ومحاولة استغلال مواقعهم العملية لتمرير أهداف وغايات تنمّ عن تسفيه العلم واحتقار العقل، بعيداً عن الفهم المتنوّر والعقلاني للإسلام كما جاءت به الرسالة المحمّدية السامية، إلّا كنوع من البؤس الذهني والروحي والأخلاقي الذي يعمل على تحويل جامعاتنا ومدارسنا ومعاهدنا العلمية إلى منابر للفكر المتخلف، وتمرير الدعاوى المضادة للعلم والتنوير، فذلك ما لا يمكن التسامح معه أبداً، وإن تم (استخدام) بعض الأساتذة فيه.
فمن واجب جامعاتنا ومؤسساتنا العلمية والتربوية والثقافية والإعلامية أن تدحض الميديا المضللة ومهرجي وسائل التواصل، وأن تتصدى لهذا الغزو الثقافي لعقول الناشئة، فيجب محاسبة من يقصّر في النهوض بهذا الواجب لهزيمة أي طرح يستهدف الوحدة الوطنية والتماسك الاجتماعي، ومعهما أفكار العقلانية والتنوير والتحرر.
فلا يمكن ضبط المجتمع والشارع قبل ضبط هكذا مؤسسات، خاصة مع تبديد شعار طالما طرحناه وعملنا عليه سابقاُ وهو: ربط الجامعة بحاجات المجتمع والدولة، فأي دور تنموي معنوي ومادي تنهض به اليوم جامعاتنا في هذا السياق قياسا لما بذله العمال والفلاحون وأبناؤهم؟!