في الوعي والأيديولوجيا
عبد الكريم النّاعم
قال صديقي الذي احتملني واحتملتْه، بحبّ، طويلا: “البارحة، وأنا أراجع بعض ما مرّ بنا، ورغم أنّني لست من المتبحّرين في هذه الأمور، وإنّما درتُ حولها كغيري في فترة من فترات العمر، خطر ببالي عنوان هو علاقة “الوعي” بـ”الأيديولوجيا”
أجابه بدهشة: “هكذا دفعة واحدة الوعي والأيديولوجيا؟! هذا موضوع واسع، وأنا حين أتكلّم فيه لستُ أكثر من هاوٍ صغير، أرجو أنْ أستطيع السباحة في بعض سواحله.
الوعي يا صديقي هو “الحالة العقليّة التي يتمّ من خلالها إدراك الواقع والحقائق التي تجري حولنا، وذلك عن طريق اتصال الإنسان مع المحيط”، وهو “جوهر الإنسان وخاصيّته التي تميّزه عن بقيّة الكائنات”، أمّا الأيديولوجيا فهي “النّسق الكليّ للأفكار والمعتقدات والاتجاهات العامّة الكائنة في أنماط سلوكيّة معيّنة، وهي تساعد على تفسير الأسس الأخلاقية للفعل الواقعي، وتعمل على توجيهه”، ومن خلال التعريفين المُقتضبين يتبيّن أنّ الوعي سابق على الأيديولوجيا، وشرط فيها، الوعي مفتوح انفتاح الآفاق المحيطة بنا، سواء أكانت ماديّة أم معنويّة، أي أنّ من شروط كونه وعياً أن يتوقّف أمام كلّ جديد، ويتأمّله، ويدقّق فيه، فما كان منه خيّراً، ويحمل بذرة من بذور ما ينفع الناس، عليه أن يتقبّله، هذا إذا كان من ذوي النّزعات الخيّرة، الرحمانيّة، وأن يسعى جاهداً لتحقيقه لما فيه من خدمة للبشريّة، وما كان شرّيرا، فإنّه إن كان عاقلاً فإنّه ينحّيه ويبتعد عنه، ويحاربه لما فيه من شرور.
أمّا الأيديولوجيا، فيغلب على (معظمها) أنّها ذات آفاق أقلّ اتساعاً، ليس لأنّها لا تتقبّل ذلك، بما هي “فكر”، بل لأنّ معتنقيها هم الذين يضيّقون حدودها لتأتي على مقاس أفهامهم، ومن اللاّفت أنّ معظم الأيديولوجيات، سواء الماديّة منها أو نقيضتها، تكون سماواتها أكثر انفتاحاً على يد مؤسّسها، فيأتي جيل ويبدأ بتضييق آفاقها، لتلائم فَهْم من يقوم بذلك، ومن أسف أنّ تلك الرؤى أو الاجتهادات، وهي اجتهادات بشريّة، يأتي فيما بعد مَن يخلع عليها من القداسة ما يجعلها حرَماً مقدّسا لا يجوز المساس به”!
قاطعه: “ألا تلاحظ معي أنّ بعض القضايا المركزيّة المتّفق عليها وطنيّا، والتي لا يكابر فيها إلاّ متعنّت، وهي قضايا مركزيّة، واحدة، ويُحيط بها أكثر من أيديولوجية؟! فكيف يمكن إقامة التوافق بين واحديّة القضيّة، وتعددية الأيديولوجيات”؟!
أجابه: “هنا مربَط الفرس كما يقولون، الأيديولوجيات قد تكون متناحرة، والقضيّة الوطنيّة القوميّة لا تقبل في جوهرها ذلك التناقض، ومن هنا يتولّد الإرباك، بل ثمّة ما هو أخطر، فثمّة من يريد إخضاع القضيّة التي هي قضيّة أمّة، وقضيّة مصير، يريد إخضاعها لرؤية أيديولوجيّة، فيقدم الأيديولوجيا التي يحملها حتى على القضيّة المركزيّة، وبذلك يبدأ التصدع، وتتشقّق الجدران، لنأخذْ القضية الفلسطينية وهي قضيّة الأمة المركزيّة، ثمّة العديد من الفصائل والقوى التي ترفع شعار تحرير فلسطين، وحين يصل الأمر إلى الأيديولوجيا يعمى المتأدلجون عن هدف التحرير، ولا يفكّرون إلاّ كما تسمح لهم حدود فهمهم الأيديولوجي، وبذلك يتحوّل الصراع من صراع مع العدو، إلى صراع في الجبهة التي يُفترض أن تكون واحدة، وهذا خلل بنيويّ، وأخطاره مدمّرة”.
قاطعه: “لقد أثرتَ في ذاكرتي أمراً مهمّاً، فانا مع كلّ مقاومة تناضل ضد الاحتلال الصهيوأمريكي، واسمح لي بهذا الاستشهاد، منذ مدّة حضرت على التلفاز تجمّعا حاشدا في غزّة، وأنا أفتخر بصمود شعبها، وصبره، وشجاعته، وما وصل إليه من تطوير نفسه في مواجهة ترسانة الاحتلال الصهيوني، وصمت الخطيب قليلا فارتفع صوت قريب منه يهتف: “الله أكبر ولله الحمد”، فشعرتُ أنّ كفّا إسرائيلية قد صفعتْني، ليس لأنني أنكر ذلك الشعار دينيّاً، بل لأنّه شعار جماعة “الإخوان المسلمين” الذين كانوا وراء كلّ الأحداث الدمويّة في وطننا العربي الكبير”.
صمت قليلا وقال: “تلك علامة من أخطر علامات التدمير الذاتي، باسم الأيديولوجيا العمياء القاصرة”.
aaalnaem@gmail.com