“اتفاق ابراهام” ودرب “الجلجلة” المعتاد
في جوهره لم يكن حدث الإعلان عن التطبيع الكامل بين الإمارات والكيان الصهيوني حدثاً منشئاً لواقع جديد كي يصفه كاتب مثل توماس فريدمان -وما يمثّل- بـ”الزلزال الجيوبوليتكي”، بل كان، ببساطة ووضوح، حدثاً كاشفاً عن واقع تطبيعي قديم ومعلن، بدأت طلائعه منذ أن ذهب أنور السادات إلى القدس ليخرج مصر من الصراع العربي، الوجودي، مع الصهيونية الاستيطانية، ويحوّله إلى نزاع على أراض يمكن، ويجب، حلّه بتنازل هنا و”تعليق” هناك، والأهم، استبدال القرارات الأممية ذات الصلة ومبدأ الأرض مقابل السلام، بالقول: إن مبدأ السلام مقابل السلام، هو أمر ممكن بين أبناء “إبراهيم” المعتدلين..!!.
والحال فإن حقيقة قدم التطبيع وتاريخيته لا تحتاج لجهد كبير لتبيانها، ويمكن سرد مطولات عدّة عن محطاتها وأشخاصها، وسماسرتها، والأموال التي دفعت، واستثمرت، هنا وهناك -تقدّر التجارة بين “إسرائيل” ودول الخليج بأكثر من مليار دولار في السنة – كل ذلك للحفاظ على كراس مذهّبة يعرف الجالس عليها منذ أن أورثته لندن -الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس- لواشنطن -روما العصر الحديث- أن العلاقة بين بقائه وبقاء “إسرائيل” مصيرية ووجودية أيضاً، وفق علاقة طردية مفادها: لا حامٍ لحكام هذه المشيخات من الاستحقاقات الطبيعية إلا واشنطن وبوابتها الكيان الصهيوني، ولا بقاء “لإسرائيل” لولا هؤلاء الحكام الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل ذلك.
وفي هذا الإطار يمكن مراجعة بعض الوثائق الغربية التي كشفت الكثير عن عمليات التخادم المتبادل بين مشيخات الخليج وكيان الاحتلال، بدءاً من محاربة مصر الناصرية في الستينيات -وقد اعترف وزير خارجية آل سعود، عادل الجبير، علناً بذلك- ثم كل مشروع استقلالي لاحق -وقصة نادي “السفاري” معبّرة هنا- وصولاً إلى دور حكام الخليج الكبير في اتفاقية “كامب ديفيد”، تحريضاً وتمويلاً، ودورهم، تحريضاً وتمويلاً أيضاً، في “قادسية” العراق لحرف البوصلة عن “اسرائيل” وتدمير بغداد وطهران معاً.
أما اليوم فلم نعد بحاجة لانتظار الوثائق لمعرفة “تخادمهم” مع العدو، فقد أصبح ذلك يجري أمام أعين الجميع -وباعترافهم “المشهود” والمعلن كما في حالة نصرة الإرهاب في سورية- بحجة الاعتدال والواقعية وولوج العصر، وهي حجج لم يقصر إعلام البترودولار في دعمها وترويجها عبر التضليل والتمويه واللعب بالمصطلحات وتغييرها لـ”خلق ادراك وهمي بالعالم الحقيقي”، والعمل على أنسنة العدو مقابل شيطنة كل فعل مقاوم سواء كان بالسلاح أم بالكلمة، وتسخيفه واعتبار كلام المدافعين عنه خشبياً ينتمي إلى “مطحنة الكلام الفارغ وعموم تجار الكلام”، كما تسوّق وسائل إعلامهم، وفي الموازاة العمل الدؤوب على اختراع عدو جديد بصفة مذهبيّة لا بدّ من مواجهته، وذلك غير ممكن إلا بالتحالف مع “إسرائيل”، باعتباره عدواً وجودياً مشتركاً للطرفين، أما ما بين العرب والصهاينة فليس إلا حاجزاً من الوهم كما يقول “كتّابهم” اليوم، ولنتذكّر، كان اسمه عند “السادات” حاجز نفسي، وتكفي زيارة القدس لهدمه، وهي زيارة افتتح بها العرب عصر تنازلاتهم، لكنها أوصلت “السادات” إلى الموت مقتولاً في حادثة “المنصة” الشهير.
إذن الحدث الجديد ليس منشئاً بل كاشفاً، لكن توقيت الإعلان عنه، زمانياً ومكانياً، يرتبط بأمور ثلاثة، أولها، استغلال الواقع العربي الضعيف والمفتّت، وثانيها، انقاذ “ترامب” انتخابياً، و”نتنياهو” سياسياً وشخصياً، فيما يربط البعض الأمر الثالث بتوقيت يراد منه إعادة هندسة المنطقة جيوسياسياً عبر الاقتصاد، وكان من صورها تفجير مرفأ بيروت وإخراجه من الخدمة، ثم محاصرته ببوارج المساعدات الأطلسية، “الإنسانية”!!، الحربية، بعد إخراج المرافئ السورية عبر الحصار “القيصري” عليها، وذلك كله لصالح مرفأ حيفا الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي ليكون المرفأ الوحيد لدول الخليج على شاطئ المتوسط.
بالمحصلة، هذا درب سيسير عليه الكثيرون ممن لهم اتفاقات سريّة وشبه علنيّة، وهم، للأسف، يتزاحمون الآن على حجز المقعد التالي في قطار الذّل بحجة فلسطين وضرورة “سحب البساط من تحت أقدام المزايدين والمتاجرين بقضيتها على مدار عقود”، كما تنطّح كاتب سعودي مبرراً خطوة الإمارات ومانحاً، في الآن ذاته، صك براءة مسبق لمن سيليها. لكن البساط الذي “نسجوه” بأيديهم يأخذ خيوطه من حق وأرض فلسطين التاريخية ليمنحها لـ”إسرائيل” دون مقابل لأبنائها، فهل يعمد هؤلاء لاستعادة هذه الخيوط ونسج “بساطهم” الوطني الخاص؟؟، ذلك أمر يحتاج إلى “فداء عظيم”. وتلك “جلجلتهم” المعتادة منذ أيام جدهم “إبراهيم” وأباهم “إسماعيل”.
أحمد حسن