عميان.. وكثيراً ما يبصرون!!
“البعث الأسبوعية” ـ علا أحمد
“العيون ليست سوى عدسات، أما العقل فهو الذي يرى”، عبارة تستوقف المرء قليلاً ليفكر في المعنى الكبير الذي تحمله في طياتها، لربما لا يدرك الجميع أهمية نعمة البصر التي وهبت لهم، أو لا يشعرون بقيمة أي شيء يمتلكونه إلا حين الفقد أو التهديد بذلك.
تروى قصة من شبه القارة الهندية أن هناك ستة عميان تناهى إلى أسماعهم أن فيلاً كبيراً سوف يؤتى به إلى بلدتهم بمناسبة الاحتفال السنوي، فذهب الستة إلى حاكم البلدة، وطلبوا منه أن يسمح لهم بلمس الفيل لأول مرة في حياتهم، فهم دائماً ما يسمعون عنه، لكنهم لم يتصورا شكله قط! لم يمانع الحاكم، إلا أنه اشترط في سبيل ذلك أن يصف كل منهم الفيل بجملة واحدة. وهو ما حصل بلضبط!!
لكن، وأثناء وصف كل من الستة للفيل، كان كل من في المكان يقهقه بصوت عال ساخراً، إلا الحاكم فقد كان يسمع بإصغاء كامل، وبعد أن هدأت الأصوات توجه بالكلام للجميع: “لماذا تسخرون من العميان الستة؟، فكلهم صادق في وصفه للجزء الذي لمسه من الفيل، فالأول قال إن الفيل يشبه الحبل لأنه لمس الذيل فقط، والثاني أن الفيل كالحائط لأنه لمس الجسم، والثالث أن الفيل كالخنجر لأنه لمس الناب، والرابع أن الفيل كالثعبان لأنه لمس الخرطوم، والخامس أن الفيل يشبه المروحة لأنه لمس إحدى الأذنين، والأخير قال أن الفيل كجذع الشجرة لأنه لمس القدم”، وبذلك فقد أصاب كل من الستة جزءاً من الحقيقة، والخطأ الوحيد الذي ارتكبوه هو أنهم لم يتريثوا ليعرفوا الحقيقة كاملة! ونحن أيضاً، بلا استثناء، نقع في هذا الخطأ كثيراً، نتحدث عن جزء من الحقيقة ونعتقد أن هذا الجزء هو الحقيقة كاملة، فنتمسك به ونتعصب من أجله، نهاجم من يعارضه ونحارب الآراء الأخرى، وذلك ببساطة لأننا لم نحيط الحقيقة من كافة جوانبها.
لطالما شكل عدم الرؤية هاجساً مؤرقاً، وعندما كنا أطفالاً حاولنا كلنا أن نجرب العمى المؤقت بأن نضع على أعيننا عصبة سوداء، ونحاول أن نتلمس طريقنا وأغراضنا في المنزل، مدركين لها ببصرنا، إلا أننا نتعثر ونضجر ونيأس، وسرعان ما نستسلم، ونعود إلى حالتنا الأولى. لكن ماذا لو أصابنا ما تخيله الكاتب البرتغالي جوزيه سارماغو في روايته التي تحمل عنوان “العمى”، والتي تتحدث عن رجل يصاب بالعمى، ولكنه عمى من نوع مختلف، فالمصاب به يرى الأشياء باللون الأبيض، ثم ما يلبث هذا الداء أن يُصيب اللص الذي سرق سيارة هذا الرجل، وبعده الطبيب، ثم المرضى في عيادته، وهكذا يُصاب الجميع، إلا امرأة واحدة، ولكنها بعد قليل تتمنى الإصابة لكثرة ما تشاهده من انحطاط وطغيان وأعمال السرقة وسلب ونهب يمارسها الآخرون لكسب لقمة العيش، وما يُمارس على الشعوب من استبداد ودكتاتورية وغير ذلك، فما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع من العميان!!
هذه الرواية قد تقع وتحدث في كل مكان.. هي حكاية الإنسان عندما يتغير وجوده لتغير شرط وحيد من شروط حياته، وهو تغير مروع كما يطرحه ساراماغو، ويتلخص في تساؤل ممكن: ماذا لو عمي الناس تباعاً؟ عمى لا سبب ظاهراً له! والرواية لا تبحث أو تهتم بسبب العمى، وإنما تركز على الناس الذين تركوا للعمى في مكان محدود، لنخرج بتساؤل عميق: هل نحن في حالة عمى؟ هل نحن لا نرى؟ نعم، وفي أشياء كثيرة!
لم يكن ساراماغو هو السبّاق في تصوير عالم العميان، بل كتب العديد من هذه الأعمال، ومن إحدى أشهر الروايات، رواية عبقرية وملهمة يعايش فيها القارئ الصراع الذي عاناه بطل القصة في أن يظل محتفظاً ببصره، أو أن يقبل التخلي عنه مقابل أن يعتبره المجتمع مواطناً كاملاً ليستطيع أن يتزوج من حبيبته.. “أرض العميان”، رواية الكاتب البريطاني هربرت جورج ويلز، تحكي عن مهاجرين هربوا من طغيان الإسبان، ثم حدثت انهيارات صخرية عزلتهم عن العالم في وادٍ غامض مجهول، وانتشر بينهم نوع من أمراض العيون أصابهم بالعمى، وظلوا يتوارثون هذا العمى حتى 15 جيلاً، ولكنهم استطاعوا تكييف أوضاعهم، ونسوا أن هناك ما يسمى بنعمة البصر، والعضو الذي يسمى “عينان”. يظهر هنا بطل القصة نيونز، مغامراً شاباً يهوى تسلق الجبال، تلقي به الأقدار في بلادهم، ويلاحظ أن المساكن ألوانها فاقعة غير متناسقة وبلا نوافذ، ثم يدرك أنه في بلد العميان، ويتذكر مقولة “الأعور يصبح ملكاً في بلد العميان”، فيظن أن بإمكانه أن يجد مكاناً له هنا، لأنه الوحيد المبصر بينهم. حاول إقناعهم بأنهم عميان، وأن هناك نعمة تسمى البصر يفتقدونها، لكنهم لم يصدقوه واعتبروه مجنوناً. حاول الفرار ولم يستطع، واضطر للعودة إليهم بعد تعب وجوع ليقر بخطئه ويضع نفسه تحت تصرفهم.
لربما تأثر الكاتب البريطاني ستيفن رايت برواية “أرض العميان”، فجاء هذا التأثر على شكل مسلسل اسمه “see”، أو الرؤية، يقوم على فكرة مجتمع للعميان يعيشون في المستقبل البائس، حيث انتهت الحضارة الحالية، وعاد الإنسان إلى بدائيته الأولى، لكن مع فارق أن البشر قد أصابهم وباء غامض فأصابهم العمى؛ ومع تعاقب الأجيال ومرور السنوات والقرون، أصبح العمى هو الطبيعة البشرية العادية؛ ووسط عالم العميان، تبدأ صراعات بين قبائل تتعامل مع فكرة البصر على أنها خرافة وبدعة، وأنشأت الجيوش لمطاردة المبصرين وحرقهم أحياء، وفي أغلب الأحيان يكون هؤلاء الضحايا عميان، لكن ذكاءهم الشديد وبصيرتهم واختلافهم تثير الشك من حولهم، ويعتبرهم الآخرون سحرة يجب القضاء عليهم.
يُبين لنا المسلسل أن كامل إرث البشرية قد اختفى، وبطبيعة الحال فإن الناجين غير قادرين على الكتابة أو القراءة، إلا أنهم طوروا وسيلة جديدة للكتابة هي ربط العقد بمسافات متباعدة وأشكال مختلفة على طول خيط، بحيث تمثل هذه العقد جملة معينة بما يمكن اعتباره وكأنه “شيفرة مورس” مصممة للقراءة بالأيدي. حتى في عالم العميان لم تختلف الأحوال كثيراً عن عالم المبصرين، فيبدو أن الغريزة البشرية هي التي تحكم وتسيطر، فعلى الرغم من أن العميان يروون أن العلم والحضارة هي التي دمرت الحضارة البشرية سابقاً، وأن عالم الظلام الذي يعيشونه لم يشهد الحروب التي شهدها عالم المبصرين في القرون الماضية، إلا أن مظاهر العنف المفرط جزء من هذا العالم القاتم ومشاهد القتل الوحشي العنيف والدماء الغزيرة كانت تحتل جزءاً كبيراً من العمل.
إن من يعيش في عالمنا اليوم عليه أن يضع على عينيه عصابة سوداء، وأن يلغي عقله ويقتل ضميره، فكل شيء في هذا العالم يصيب بالجنون، فلا حياة لمبصر وصاحب ضمير.. العمى وموت الضمير أصبحا شرطاً للحياة على هذا الكوكب!!