فاتن عباس.. “شمس” في سلحب
الفنونُ ليست حكراً على الأكاديميين الذين يدرسونها، بل إنها شغفُ كل إنسان فيه روح، وفي دواخل كل منا جذوة مشتعلة من فنٍ يشغفنا حباً، ربما يصبح لهيب تلك الجذوة أقل اشتعالاً مع مرور الأيام وتراكم أشغال الحياة وأثقالها، لكنها ليست إلا لحظة واحدة لا أكثر، تعيد قدح ذاك الزناد المنتظر، حتى تشتعل جذوة الشغف وتعود لتضيء كل حلكة مررنا بينها ونحن ننتظر قدراً مغايراً لما سرنا في ركابه.
فاتن عباس المحامية ابنة حماة- سلحب، التي أخذتها دروب الحياة في مفارق مختلفة، لبّت نداء شغفها، وبعد حياة عاصفة بمساراتها الإجبارية، أرخت جناح الفراشة الملوّنة الذي يخفق في جوانياتها وذهبت نحو حلمها كالمسرنمة بينما الفرح يلتهم ملامحها، والحياة التي مرّت بصخبها وعنفها وما فيها من انكسارات وطموح وحلم وخيبة، دلّتها على الطريق حيث مشت تسقي آمالاً تسكنها وتفيض عنها من قوس قزح مقيم، إلا أن ما أعادت الحياة إضرام حرائقه فيها، لم تتعامل معه وكأنه حلمها الشخصي، بل إنها ذهبت أبعد من ذلك وبجهد شخصي لا يُستهان به من مختلف الجهات، لتنشئ وعلى نفقتها الخاصة وبعد جهد في إقناع من حولها بما تفكر فيه، بيتاً للفنون سمّته “بيت شمس للفنون”، وفيه تستقبل كل محبّ للفن التشكيلي ومن كافة الشرائح العمرية، هناك حيث سيجدون فيه ملاذاً دافئاً وحميماً من قسوة الحياة. تقول فاتن عن هذا: “بدأت بالرسم بعد الانقطاع لسنوات، شغفي به كان حافزاً كبيراً لأستعيد مهارتي وأسترجع قدراتي لتطويعها في خدمة ما تهفو إليه نفسي، بدأت الرسم وكلي خوف أن تخونني ريشتي وتخذلني أصابعي، لكن البداية جاءت مُرضية نوعاً ما، وتأكدت أن الثوابت التي امتلكها مازالت محفوظة ومعتّقة”.
بعد أن اطمأنت إلى أن ما تركته الطبيعة في روحها، وبأن أصابعها قادرة على جعله يتكلم، فتحت أبواب مرسمها الصغير للأطفال، الذين أقبلوا ليتشبعوا من روح اللون ويتعلموا كيف يستطيعون أن يرسموا أحلامهم، الكبار أيضاً كان لهم حصة في هذا المرسم الصغير، وعن هذا تقول: “عندما رأيت الإقبال الكبير على مرسمي الصغير، بدأت بالتفكير بتوسيع المكان ليستوعب أكبر عدد ممكن من الراغبين بتعلّم الرسم، ليتحوّل المرسم الصغير إلى مشروع يضمّ جميع الأعمار من الراغبين باحتراف الفن والرسم تحديداً”.
الهدف الرئيسي الذي وضعته عباس نصب عينيها أثناء اشتغالها على بناء حلمها، هو ترسيخ حب الفن والعمل على تطوير المواهب التي لا تجد من يعتني بها في المنطقة، وذلك من خلال تقديم المعلومات لهم بشكل صحيح، وتشجيعهم على الارتقاء بموهبتهم ليصلوا إلى أرقى المستويات، إلا أن كلّ حلم محكوم عليه ببعض العراقيل التي يجب أن يتجاوزها ليصير من لحم ودم، وعن هذا تقول: “لا أنكر مرارة الصعوبات التي مررت بها، فمن صعوبة اقتناع الأهالي بضرورة تنمية مواهب أبنائهم، إلى صعوبة إيجاد مكان يتسع لأعدادهم، ثم صعوبة توفير الأدوات والألوان المطلوبة بجودة عالية وأسعار مناسبة، خاصة في ظل كارثة ارتفاع الأسعار، وضمن الظروف الصعبة التي تمرّ بها البلاد وأهلها”.
مشروع “شمس” ليس وليد اللحظة، تقول فاتن، وتتابع: “لم يفارق مخيلتي يوماً، حتى جاء الوقت المناسب في تاريخ رسم أول لوحة بالفحم العام الماضي، وهكذا انطلق المشروع في صالوني المتواضع وبعدد قليل من الطلاب، وبعدها انتقلت إلى مرسمي الحالي عندما ضاق المكان على طلابي، إلا أن المشروع كما هو في تفكيري، لن يقف هنا، فلديّ طموح بتحويله إلى نواة حقيقية للفن، خصوصاً في زمن القبح والبشاعة الذي نعيشه، لأنني أؤمن أن نجاة الإنسان تكمن بنجاة روحه من اليأس، والفنون قادرة على هذا”.
وفي ظل وجود العديد من الفنانين الاختصاصيين الذين لديهم، بحكم الممارسة، الخبرة الأكبر في هذا المجال، كان على فاتن خريجة الحقوق، أن تعمل بجد على إخراج الفنان الفطري الكامن في دواخلها منذ زمن ضفائرها الطائرة في فضاء سلحب الخلاب، وتعمل على نفخ الروح في شرايينه وروحه، فالمهمة ليست سهلة، لكن الهمّة والرغبة والجدية موجودة، ووجودها يصنع المستحيل.
أما عن سبب اختيارها منطقة “سلحب” للمشروع الفني الذي اشتغلت عليه، خصوصاً، فتخبر عباس عن ذلك بقولها: “من لا خير فيه للمقربين، فلا خير فيه لبلاده، هذا أولاً، السبب الثاني هو رغبتي أن أكون بين أهلي وناسي الذين قضيت معهم عمري، وكان لدعمهم كبير الأثر في دوران عجلة “شمس”، لذا فهم الآن أحق بأن أردّ إليهم بعضاً من محبتهم، وبعدها بالتأكيد لديّ خططي لتطوير هذا المشروع”.
تعمل عباس مع طلابها للوصول إلى مستوى يليق بعين المتلقي كما تقول، وبعد أن تنتهي مرحلة المران، سيكون مشروع “شمس” الأهم، هو القيام بمشاريع فنية يعود ريعها لمصلحة أسر الشهداء، وكان أن شارك “بيت شمس للفنون” بعدة فعاليات فنية، سواء في المركز الثقافي في سلحب، أو في بعض الأندية الرياضية التي شكّلت حسب رأيها “مزيجاً فنياً رائعاً بين الرياضة والفنون للأطفال”.
لم تتلقَ عباس أي دعم لمشروعها لكنها تعتبر: “كل من قدّم كلمة طيبة اتجاه هذا المشروع أنا اعتبره داعماً له، وبالنسبة للدعم المادي كان لي من زوجي وأهلي النصيب الأكبر، ولا يمكن طبعاً نكران فضل أبناء مدينتي بإقبالهم وتبنيهم لهذا المشروع”.
العملُ الذي تقوم به الفنانة فاتن عباس من خلال مشروع “بيت شمس للفنون” بالتأكيد ليس احترافياً بمعنى الكلمة، ولا يزال الطريق أمامه طويلاً لتحقيق الحلم، لكنه يُشعل شمعة عوض أن يلعن الظلام.
تمّام علي بركات