آلة الزمن وزمن القصص
الحياة التي نعيشها هذه القصيرة المقتضبة أقل من ذكرى وأطول من حلم، بين هذا الشعور وذاك تمرّ لحظاتنا كل يوم عابرة بسرعة وقت الفرح، ومديدة لا تنتهي في وقت الألم، لماذا نقرأ الزمن في تجاعيدنا ولماذا نبحث عن الغد في رغباتنا؟.
الجواب باختصار لأننا لا نتقن قراءة الزمن ولا نتقن البحث في الرغبات، والركض الحثيث وراء كل كلمة وعبارة وتصرف يقوم بها الآخرون لنواجه أو نلتف أو نتحاشى أو ننسى، هو فقط ما نتقنه في هذه الحياة، ونادراً ما نملك الجرأة لفعل ما نريد كي نصل لما نريد.
وإذا كان الزمن داخل النص الروائي ينقسم إلى زمنين: أولهما زمن القصة، والثاني زمن الخطاب فإن الأخير متعدّد الأبعاد والزوايا لأنه ينتقل بنا كمتلقين للنص بين الحاضر والماضي والمستقبل، وهذا يفضي إلى قناعة راسخة لدى كل النقاد بأن التطابق المزعوم بين زمن الحكاية وزمن سردها صعب التحقّق.
رواية هربرت جورج ويلز عن “آلة الزمن” تعبّر في العديد من زواياها عن هذه الأجوبة المنشودة، الرواية التي تتحدث عن عالم استطاع بآلته اختراق جدران الزمن، فعاد للماضي وتقدم فيما بعد للمستقبل البعيد فرأى الفروقات التي ستفضي بها الأيام للبشرية، حيث تصبح طبقتين، واحدة همجية حيوانية الطباع والغرائز تُسمّى “المورولوك”، والثانية مسالمة وتُسمّى “الأيلوي” تركن للدعة والرفل بالنعيم ولا تفكر في شيء إلا بمتعها الآنية، ولو كان الثمن أن يتقدم أحدهم ضحية للطبقة الثانية التي تتغذى على لحوم أقرانها.
تتميّز رواية ويلز “آلة الزمن” الصادرة عن الهيئة السورية للكتاب- سلسلة الخيال العلمي، ترجمة محمد أمين الصباغ، المليئة بالأحداث المثيرة، بحبكة درامية قوية جعلتها مصدر إلهام للعديد من الروايات والأعمال الفنية على مدى أكثر من ١٠٠ عام، حيث يسلّط المؤلف في روايته الضوء على مستقبل البشرية المظلم نظراً لاتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء، وظهور الجنسين من البشر “الإيلوي” و”المورلوك” كمجتمعين ينحدران من أصل بشري واحد، بيد أنهما مختلفان تمام الاختلاف وإن جمعت بينهما رابطة غريبة، فالإيلوي جنس متحضر نسبياً يعيش عيشة آمنة ينعم بثمار الأرض وخيراتها، بينما يعيش المورلوك تحت سطح الأرض في شقاء دون أن يبصر نور الشمس، ويعيش مجتمع المورلوك على افتراس مجتمع الإيلوي.
“آلة الزمن” بشخصياتها المؤلفة من مسافر الزمن، وهو البطل الذي تسير معه أحداث الرواية، و”وينا” الصغيرة، وهي الشخصية التي أحبها مسافر الزمن، و”فيلب” صديق مسافر الزمن. في الحقيقة، الفكرة المرعبة لا تبدو بعيدة عن التصديق لما نشهده ويشهده العالم من أحداث ومعطيات وحقائق مرعبة كل يوم، هل كانت تبحث في عمقها عما نبحث؟ هل كان ويلز نفسه معنياً بالإجابة عن خوالج صدورنا؟ والرجل الذي كتب عنه ويلز في روايته هذه المهموم بالزمن الشغوف بالبحث عن ذوات كثيرة داخل ذاته، وعن فلسفة وفهم معاني كل حدث يتعرض له، سواء أكان كبيراً أم صغيراً، كان مثلنا يبحث له عن مخارج للرواية لتنجح أو كان يبوح لأوراقه عن معاناته نفسها وهواجسه، ويبثّ لنا حياته الشخصية عبر الرواية.
الصراع الذي أبدعه ويلز في روايته مغامرة شائقة ممتعة الأبعاد يعيشها كل منّا في ذاته آلاف المرات عبر حياته القصيرة، يركض في الزمن للوراء ويبحث عن دواعي الفرح ويهرب للمستقبل مستشرفاً أياماً تليق بذاته وبأحلامه كلما أراد للفرح سبيلاً.
قال كاتب السيناريو والمؤلف والروائي الأمريكي روبرت سيلفربيرج عن آلة الزمن “إن كل روايات السفر عبر الزمن التي خرجت للنور منذ ظهور رواية آلة الزمن تدين بالفضل لرواية ويلز”.
هربرت جورج ويلز كاتب بريطاني وُلد في 21 أيلول عام ١٨٦٦ في مقاطعة كِنت بضاحية بروملى في لندن، اشتُهر بكتابة روايات الخيال العلمي، غير أن له باعاً طويلاً في كتابة العديد من الألوان الأدبية الأخرى، ومن أشهر أعماله “جزيرة الدكتور مورو” و”حرب العوالم”.
في النهاية، الزمن هو الوقت نفسه الذي يمر علينا، ونحن نقرأ هذه السطور ولكن مثل كل الحالات البشرية كل منا سوف يقرؤه من منظور روحه الخاص كما يتعامل مع مرور دقات الساعة بصبغته الروحية الخاصة.
جُمان بركات