“نزهة الغراب” تكسر “عزلة الحلزون”
في خطوة مميّزة يستبقُ الروائي والصحفي السوري خليل صويلح جديده “نزهة الغراب”، الذي سيصدر قريباً عن دار “نينوى” في دمشق، بجهود إبداعية لا بد من الوقوف عندها، لما تحمله من فهم جديد لجوهر العلاقة مع عملية النشر.
الجهود الإبداعية تلك ليست هي التي بين دفتي الكتاب، والذي لا بد أن يكون مفعماً بها، شأنه في ذلك شأن التحف التي قدّمها للمشهد الأدبي السوري، بل هي جهود إبداعية متعلقة بفهم جديد لعملية التسويق، فهو يرمي الطعم الآن للقارئ المتلهف، وذلك من خلال بعض الاقتباسات من عمله الجديد “نزهة الغراب” التي ينشرها على صفحته الزرقاء، منوهاً بأنها من جديده المُنتظَر، بطريقة ينبش فيها مكامن الرغبة عند القُراء لتلقف كل جديد له، ومن قال إن الكتاب لا يحتاج إلى ترويج؟، هذا المستوى الجديد من الوعي بالوضع المعرفي يجب أن يُحسب لمبدعه، قد لا يكون الأول في ذلك، لكن عند جولة على تلك الاقتباسات وبعض المواد الصحفية التي تبشّر باقتراب لحظة النعمة وصدور “خير الجليس”، فلا بد من الوقوف عند التميّز في هذا المجال.
الفكرة راودته خلال فترة الحجر المنزلي التي عصفت بالبلاد والعالم في الفترة الماضية، وهذه تُحسب للكاتب، وتكشف عن مهارة في استثمار الوقت الذي هو كالسيف، فبينما كان الناس يقضون جلّ أوقاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، لهدر الوقت والتسلية، كان مبدعنا النشيط يختلي بنفسه مقشراً اللحظات الهاربة، ونابشاً في أعماق المجاز الذي يخلطه بذكريات القراءة البعيدة، متأرجحاً بين الدهشة والذهول، وهكذا بينما كان البعض يشتكي الضجر من الحجر المنزلي، فإن أديبنا المجتهد قد خطّ توقيعه على الصفحة الأخيرة، منهياً جديده الذي يختلف عما سبق.
في تجاربه السابقة، وفي وما يقارب الـ 5 روايات، يتناول صاحب “دع عنك لومي” تجارب عديدة يكرر فيها الكاتب نفسه، الذي يفشل في الكتابة، لأسباب مختلفة، أهمها تملّص الأفكار المطلية بالزيت من بين الأصابع، لكنه في “نزهة الغراب” ينزعُ إلى التجديد في أساس الشخصية، فعوضاً عن أن يكون عن كاتبٍ عاجزٍ، أصبح الموضوع الآن عن قارئ ناجحٍ لا يُشقّ له غبار، والذي هو شخصياً بطبيعة الحال.
لا بد من الإشارة إلى أن هذا التبديل قائمٌ على وعي “جواني” بالشرطين التاريخي والوجودي، فالكاتب يضيف بسكين الرسم العديد من الألوان على القماشة السردية المعهودة في نتاجه الأدبي، ويهوي بضربات شاقولية وعمودية على مساقط الكلمة ومفارق الأسطر، مغربلاً اللغة من حصى التكرار، ذلك أن القراءة أسهل من الكتابة عادة، ولذلك فالنجاح مضمون هذه المرة.
سهولة القراءة وسهولة الكتابة عنها، تقوم على أن القراءة نشاط ممتع وترفيهي، ومن الطبيعي أن يحدث، وليس فيه شيء خارج عن المألوف لتأليف كتاب كامل في مديح الذات القارئة، ولكن ما يخلق التميّز في هذه التجربة، هو وعي الكاتب بسيكولوجية القارئ، مضيفاً إليه مسألة أخطر، وهي “تطور الذائقة”، وهذا يحدث عند المقارنة بين هذا الكتاب والكتاب الذي سبقه “عزلة الحلزون”. فبين العزلة والضآلة التي يوحي بها الكتاب السابق، و”نزهة الغراب” بما يتضمّنه من تجوال وطواف لكائن أكبر بالحجم ويطير، يمكن أن نقف على تغيّر الذائقة، وهي واحدة من المواضيع التي يتناولها الآن، إذ كيف نشعر أن كتاباً كنّا نقدّره سابقاً، قد انخفضت قيمته الآن مع ازدياد الوعي والنضوج الفكري، أو العكس، فكتاب كنّا نمرّ عليه بسرعة، أخذنا في القراءة الجديدة له، نعي جماليات كانت غائبة، كأننا لم نقرؤه من قبل، وهذا من السياقات التي تتضح في الرواية الجديدة.
يُقال إننا مجموع الأشخاص الذين تأثرنا بهم، ولهذا يمكن النظر إلى هذه التجربة على أنها سيرة شخصية، ليست بناءً على ما نعيشه ونجرّبه، بل بناءً على ما نقرأ لكتّاب آخرين، وهكذا تصبح القراءة عند “صويلح” حياة موازية، وتعارف على كتّاب يدخل معهم في صداقات عند كل منعطف جديد من منعطفات الخبرة كقارئ، في اتصال مستمر لم ينقطع منذ أن كان في البادية البعيدة إلى الآن، وهو اتصال آلته القرّاءة مع معارف لا يجتمعون معنا في المكان والزمان، ومع ذلك يكون أثرهم حاضراً في كل وقت.
يقول المتنبي: “مصائب قوم عند قوم فوائد”، وهذا تماماً ما ينطبق على حالتنا الفريدة هذه، فمنع التجول في ساعات محدّدة وإغلاق المقاهي، كان له فوائد كبيرة على المكتبة المحلية، التي تنتظر بشغف صدور الكتاب، وانتهاء “نزهة الغراب” الذي سيهبط قريباً فوق واحد من رفوفها.
تمّام علي بركات