التطبيع..!
حسن حميد
دائماً تظلُ ببالي مقولة /هاملت يستيقظ متأخراً/ وهي قولة فيها من مكنونات الفلسفة ما فيها، وفيها من تحقيبات التجارب ما فيها أيضاً، لأن من يفوته الصباح لا نهار له. وها أنذا أتذكر هذه المقولة وأنا أرى الحماسة التي تعصف بالكثير من المنادين برفض التطبيع مع الكيان الصهيوني، وشجب بعض السياسات العربية التي مضت إلى التطبيع منذ سنوات بعيدة، ومن خلف الستائر، وكل الخلق يعلمون ذلك سواء أكان تطبيعها مع الكيان الصهيوني تجارياً أم رياضياً أم تبادل معلومات وخبرات، وها هي اليوم ترفع الستائر، وتجهر بما كانت تفعله من قبل، وهنا تعالت الأصوات بـ “لا” كبيرة للتطبيع! وهذا حق تجاه الإعلان، مثلما كان حقّاً تجاه السرانية. لكن العجيب يتمثل في هذا الضجيج والصخب والعتاب والشتائم واللوم، وأقول عجيب للحقائق الآتية:
أولاً: التطبيع مع الكيان الصهيوني بدأ منذ قَبِلَ زعماء العرب وشيوخهم وأهل الرأي فيهم بموافقات العثمنلي بإنشاء المستوطنات الإسرائيلية، منذ القرن التاسع عشر، ونحن حين نتصفح تاريخ إنشاء المستوطنات الإسرائيلية سنجد أن البدايات الأولى لتأسيس المشروع الصهيوني كان تأسيساً من قبل السلطنة العثمانية، وقد أُنشئت المستوطنات في البداية، وبموافقة تركية، بعيداً عن القدس (لقداستها)، في الجليل والساحل والأغوار، ثم أُنشئت، وبموافقة تركية، قرب القدس، فالحي اليهودي أقيم في القدس الغربية وفي الزمن العثمنلي، وكل كلام يُنسب إلى السلطان عبد الحميد أنه كان حريصاً على فلسطين أرضاً وشعباً وقداسة هو كلام لا مصداقية له، وإلا لماذا اجتمع بزعماء اليهود مرات، وعلى رأسهم هرتزل، ولماذا تحولت الموافقات الصهيونية على إنشاء المستشفيات أو المدارس الزراعية إلى مستوطنات مثلما حدث في القدس الغربية، ويافا! هنا كانت بداية التطبيع!
وثانياً: بدأ التطبيع مع الإنكليز حين سمحت سلطات الانتداب الإنكليزية ليس بإنشاء المستوطنات الإسرائيلية وكاثرتها وفي جميع المناطق الفلسطينية فحسب، وإنما سمحت بإنشاء المعسكرات الصهيونية التي سيتدرب فيها الصهاينة على كيفية طرد الفلسطينيين وإرهابهم والاستحواذ على أملاكهم.
ثالثاً: بدأ التطبيع عندما سكتت السياسات العربية، بعضها على الأقل، على احتلال الصهاينة لفلسطين كلها، وعبر مراحل زمنية باتت معروفة للجميع (1948- 1967 – 1993)، أليست اتفاقيات أوسلو تطبيعاً، أليست المفاوضات مع قادة الكيان الصهيوني تطبيعاً؟!
ورابعاً: بدأ التطبيع، وعلى نحو غير مسبوق ومخيف، مع انفكاك مصر عن محيطها العربي، وتوقيع اتفاقيات كامب ديفيد، ثم توالت صور التطبيع وأشكاله بالظهور والتجلي في عدد غير قليل من البلاد العربية!
والحق، أليس السكوت على ما فعلته وتفعله “إسرائيل” بنا، طوال 72 سنة من وجودها الهجين بيننا، هو التطبيع الذي تسلل إلى الروح العربية مثل الخدر والنعاس، ألا يرى المصريون الإسرائيليين بينهم في وفود سياحية تزور الإسكندرية، وسيناء، وآثار مصر، ومنها الأهرامات، التي يدعي اليهود أنهم عمّروها! ألا يرونهم في شوارع القاهرة، ألا يرون العلم الإسرائيلي المرفوع منذ أربعين سنة في القاهرة، أين هي ردات الفعل، أين هي طيوف الصحوة العربية؟! ثم ألا يرى الأردنيون الوفود السياحية الإسرائيلية في ذهاب وإياب ما بين فلسطين والأردن، وما الذي فعلوه تجاهها، ربما أذكر حادثة أو اثنتين كانت الروح العربية متجلية ثم.. السلام على المرسلين؟ ألا يرى أهل بعض البلدان العربية الأخرى الوفود الإسرائيلية، وصخب كلامهم وأحاديثهم العبرية يتعالى في الشوارع والمطاعم العربية؟!
التطبيع غلط، وجريمة، وخيانة، وانهزامية، وارتماء تحت أقدام الصهاينة المحتلين الغاصبين، ولكن ماذا فعلنا تجاهه؟! أبهذا الصخب والانفعال نواجه التطبيع الذي يعني بقاء المأساة الفلسطينية مأساة أبدية؟! وكم من الأيام سيستمر هذا الصخب؟ لنعود إلى صمتنا الأكثر عيباً!
في البال رواية ماركيز (موت معلن).. وفي البال التحضيرات الحثيثة التي سبقت قتل سانتياغو قبل أن يصبح القتل معلناً!
Hasanhamid55@yahoo.com