“اتفاق أبراهام”: إسماعيل ينتظر الفداء العظيم!
“البعث الأسبوعية” ــ أحمد حسن
ربما كان أبرز ما في الاتفاق الإماراتي “الإسرائيلي”، المعلن عنه مؤخراً، كمّ المفارقات المحزنة التي حفل بها. وإذا كانت أولى هذه المفارقات هو التكذيب “الإسرائيلي” الفوري لقصة “تعليق” – مجرد تعليق – ضم أراض فلسطينية جديدة الذي أعلنته الإمارات إنجازاً أولياً للاتفاق، فإن المفارقة الثانية تمثّلت بالصلف الواضح في إعلان نتنياهو أن الاتفاق ما كان له أن يبصر النور لولا “قوة إسرائيل السياسية والاقتصادية التي دعت دولاً عربية إلى التخلّي عن مبدأ الأرض مقابل السلام، واستبداله بمبدأ جديد هو السلام مقابل السلام”، فيما كان وصف كاتب مثل توماس فريدمان – بما يمثّل – للاتفاق بـ “الزلزال الجيوبوليتكي” المفارقة الثالثة، لأنه، على خطورته، لم يكن حدثاً منشئاً لواقع جديد بل كان، ببساطة ووضوح، حدثاً كاشفاً عن واقع قديم في التطبيع العربي – الخليجي تحديداً – يمكن قراءة دوافعه، موضوعياً، بتشابه عوامل وظروف نشأة هذه المشيخات و”إسرائيل”، ووحدة القابلة القانونية المولّدة لهما، وبالتالي وحدة الوظيفة والأهداف والمسار والمصير والتحديات، ما يعني أنه، وما سيليه، أمر منتظر من كيانات تابعة من المهد إلى اللحد.
سرد تاريخي: لزوم ما لا يلزم
يعيد البعض تاريخ التطبيع إلى زيارة السادات الشهيرة إلى القدس، وهي زيارة كان للخليج وأمواله وبعض رجاله، وخاصة كمال أدهم، رئيس مخابرات آل سعود حينها، دور بارز فيها، وقد كانت أولى نتائجها إخراج مصر من الصراع العربي، الوجودي، مع الصهيونية الاستيطانية، وتحويله، في الوعي العربي الجمعي، إلى نزاع على أراض يمكن، ويجب، حلّه بتنازل هنا وهناك، والقول للعالم إن ذلك ممكن بين “أبناء إبراهيم” المعتدلين..!!
لكن لحظة السادات العلنية هذه لم تكن نبتاً شيطانياً برز فجأة في صحراء العرب السياسية القاحلة، بل هي نتاج طبيعي لمسار بدأ، فعلياً، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حين احتضنت المدمّرة “كوينسي” لقاءً بين عبد العزيز آل سعود وبين الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، أهدر فيه الأول دم مائة خروف ومعها الثروات العربية – ثم القضايا العربية – مقابل إسباغ الثاني حمايته الكاملة عليه، ولاحقاً امتدت ثنائية “الإهدار والحماية” لتشمل كل مشيخات الخليج التي ورثتها واشنطن – باعتبارها “روما العصر الحديث” – من ضمن ما ورثته من “ممتلكات” لندن بعد أن غابت عنها شمس الإمبراطورية الكبرى.
وبالتالي، أصبحت المعادلة واضحة جداً: بقاء المشيخة كيانياً، والسلالة الحاكمة أيضاً، مرتبط طرداً بالتزامها التام بأوامر وضرورات البيت الأبيض، وبوابة هذا “البيت” النفط، ثم أضيفت إليه لاحقاً “إسرائيل”، باعتبارها الولاية الأمريكية الثانية والخمسين، وهي معادلة حماها حكام هذه المشيخات بتفان مطلق وبذلوا في سبيلها الغالي والنفيس.
وفي هذا الإطار، جرت مياه غزيرة في نهر التطبيع والتخادم المتبادل بين الطرفين، ففيما شاركت طائرات “إسرائيلية” في قصف اليمن حماية للسعودية في خمسينيات القرن الماضي – وهو ما يتكرر اليوم – حاربت هذه المشيخات مصر الناصرية في الستينييات – وقد اعترف وزير خارجية آل سعود السابق، عادل الجبير، علناً بذلك – ثم كل مشروع استقلالي لاحق – وقصة نادي “السفاري” وعملياته السرية “الوسخة” معبّرة هنا – ثم كان دورهم، تحريضاً وتمويلاً، جلياً في “قادسية” العراق لحرف البوصلة عن “اسرائيل” وتدمير بغداد وطهران معاً، وتلا ذلك مبادرة الملك فهد الاستسلامية الشهيرة في الثمانينيات، واللقاءات التنسيقية السريّة في “هرتسيليا” وغيرها.
الانتقال إلى العلن
في بداية التسعينيات، راهن قادة “تل أبيب” على التزاوج بين المال الخليجي والتكنولوجيا الإسرائيلية والعمالة العربية الرخيصة، والحقيقة أنه كان رهاناً متبادلاً، لكن الواقع العربي والدولي الموضوعي حينها كان يتطلّب عدم الانتقال إلى العلن انتظاراً لأن يكون التطبيع عربياً شاملاً، وفق مسارات السلام التي كانت قائمة حينذاك، والتي توّجتها “مبادرة بيروت”، الخليجية الإخراج الأمريكية “المصدر” – كان عرّابها الفعلي وكاتب بنودها توماس فريدمان ذاته – لكن ذلك كله انتهى بعد غزو العراق وتدميره عام 2003؛ فقد بدأ، لأسباب داخلية وخارجية، موسم الانهيارات العربية الكبرى، وهو موسم تسارعت وتيرته بدءاً من عام 2011، ومعها انهارت القيادة الثلاثية، السورية – السعودية – المصرية، للعالم العربي لصالح قيادة خليجية كاملة لم يكن لها، موضوعياً، سوى إدخال المنطقة في عصر الاستسلام العلني الكامل وغير المشروط.
وهنا، من الضروري الإشارة إلى أن الإعلام “الإسرائيلي” ذاته كشف عن وجود سفارة “إسرائيلية” قائمة في أبو ظبي، منذ تشرين الأول 2017، عملت تحت غطاء “وكالة الطاقة المتجدّدة” التابعة للأمم المتحدة، ويقيم فيها ممثّل دبلوماسي دائم يحمل جواز سفر إسرائيلياً، وفي مكتب معترَف به من السلطات الإماراتية، ويرتفع داخله العلم “الإسرائيلي”. وهذه السفارة ترعى شؤون نحو 500 شركة “إسرائيلية” تعمل هناك – تقدّر التجارة بين “إسرائيل” ودول الخليج بأكثر من مليار دولار في السنة – إضافة إلى تنسيق أمني كامل ضد التحديات المشتركة، وليس من نافل القول هنا أن هذه التحديات تتمثل أولاً، وقبل كل شيء آخر، بكل من يطالب بالحق العربي الفلسطيني سواء بلسانه أو قلمه أو سلاحه، وهم قلة على أي حال.
دور إعلام البلاط
بالطبع، لم يتأخر “إعلام البلاط” عن القيام بدوره في إنتاج “وعي شقي” بالواقع، أو “خلق ادراك وهمي بالعالم الحقيقي”، عبر التضليل والتمويه واللعب بالمصطلحات وتغيير مدلولاتها؛ وهنا شهدنا شيطنة المقاومة والمقاومين مقابل أنسنة العدو، واعتبار كلام المدافعين عن الحق الفلسطيني والعربي كلاماً خشبياً ينتمي إلى “مطحنة الكلام الفارغ وعموم تجار الكلام”، والتركيز على حجم الفوائد التي يمكن جنيها من علاقات طبيعية مع “إسرائيل”. وبالموازاة مع ذلك، جرى حرف بوصلة الشعب العربي لمصلحة صراع مع عدو جديد بصفة مذهبيّة محدّدة وتصويره على أنه الخطر الوجودي المصيري على الأمة والمنطقة بأكملها، ولا يمكن مواجهته سوى بالتحالف مع “إسرائيل” كونها تعتبره – مثلنا!! – عدواً وجودياً، فيما الخلاف مع الصهاينة عرضي، بل إنه ليس إلا حاجزاً من الوهم كما يحاول “كتّابهم” ترسيخه اليوم؛ ولنتذكّر، كان اسمه عند السادات حاجزاً نفسياً، وتكفي زيارة القدس لهدمه، وهي زيارة افتتح بها العرب عصر تنازلاتهم، لكنها أوصلت السادات إلى الموت مقتولاً في حادثة “المنصة” الشهير.
الدين كوسيلة إعلامية تبريرية
وكما هو متوقع، سارع فقهاء السلطان لتبرير كل اتفاق تطبيعي قام به العرب، بحجة “وإن جنحوا.. فاجنح”، مضافاً إليها ضرورة “طاعة ولي الأمر”، وحقه في فعل ما يراه خيراً للأمة، فيما وصل الأمر بأحدهم، وهو الداعية الشهير وسيم يوسف، للقول إن الاتفاق الأخير “أنسى الشعب الإماراتي لفرط سعادته به وباء كورونا”..!! وأكثر من ذلك، اعتذر “من كل رجل إسرائيلي أساء إليه سابقاً”، فيما رد الشيخ اليمني السلفي، هاني بن بريك، على تغريدة لرئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ألقى فيها السلام، بالقول: “وعليكم السلام وعلينا، وحيّ على سلام تسكن فيه المنطقة ويُقطع دابر الحروب وتجّارها”. وبالطبع، عند هؤلاء الفقهاء يصبح رافض الاتفاقية “قبيحاً”، كما وصف بن بريك القيادات الفلسطينية، وإمعاناً في الانبطاح أمام السلطان أعلن “استعداده للسفر إلى إسرائيل حال توقيع خطة السلام”، وذلك للحقيقة دور قديم لفقهاء السلطان أوّله حين أفتى أربعون فقيهاً لأحد خلفائنا التاريخيين أنه “ما على الخليفة من حساب أو عقاب”.
توقيت الإعلان
إذن، الحدث الجديد ليس منشئاً بل كاشفاً، وبالتالي ليس “خرقاً ضخماً”، كما تبجح ترامب متفاخراً، وكانت بوادر اقتراب موعده قد ظهرت على يد سفير الإمارات في واشنطن، يوسف العتيبة، حين كتب، في حزيران الماضي، رسالة بالعبرية في صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية، يحذّر فيها من خطورة الضمّ “الإسرائيلي” للضفة الغربية على التقدّم الكبير الذي أحرزته “تل أبيب” مع دول الخليج.
لكن توقيت الإعلان، زمانياً ومكانياً، يرتبط بأمور ثلاثة: أولها الواقع العربي الضعيف والمفتّت وضرورة استغلاله، وثانيها حاجة كل من ترامب ونتنياهو لورقة مثل هذه في صراعهما الداخلي الانتخابي مع المنافسين، فيما يربط البعض الأمر الثالث بتوقيت يراد منه إعادة هندسة المنطقة جيوسياسياً عبر الاقتصاد، وكان من صورها تفجير مرفأ بيروت وإخراجه من الخدمة، ثم محاصرته ببوارج المساعدات الأطلسية “الإنسانية!!” الحربية، بعد إخراج المرافئ السورية عبر الحصار “القيصري” عليها، وذلك كله لصالح مرفأ حيفا الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي ليكون المرفأ الوحيد لدول الخليج على شاطئ المتوسط.
بدأ السباق
بالمحصلة، هذا درب سيسير عليه الكثيرون ممن لهم اتفاقات سريّة وشبه علنيّة؛ وهم، للأسف، يتزاحمون الآن على حجز المقعد التالي في قطار الذّل بدعوى أن اللحظة الحالية هي “الأفضل والأنسب لإقرار عملية سلام لا يخسر فيها الفلسطينيون كثيراً على غرار كامب ديفيد”، وبحجة ضرورة “سحب البساط من تحت أقدام المزايدين والمتاجرين بقضية فلسطين على مدار عقود”، كما تنطّح كاتب سعودي مبرراً خطوة الإمارات ومانحاً، في الآن ذاته، صك براءة مسبق لمن سيليها، فعلى الشاشة التطبيعية تظهر اليوم المنامة والخرطوم، إضافة إلى الجزء المحتل خليجياً من اليمن، كما يحاول البعض نقل الملف إلى الجامعة العربية لمناقشة “رؤية عربية جديدة” في التعامل مع القضية الفلسطينية تقيم مراسم دفن رسمية لـ “مبادرة السلام العربية” التي اعتُمدت في قمة بيروت عام 2002، بعد أن ماتت فعلياً مع الاتفاق الأخير.
تداعيات
على ما نقل إعلامياً حتى الآن، باعتبار أن الاتفاق لم يوقع رسمياً بعد، يمكن القول أن مضمونه يُركّز على ثلاث نقاط أساسية، هي: التعاون الأمني، وتوحيد الرؤية حول التهديدات المشتركة في المنطقة، والاستثمارات المالية الضخمة؛ وذلك، وإن لم يكن جديداً – كما سلف – إلا أنه، وفي ظروف المنطقة الحالية وتطوراتها المتسارعة، يكاد أن يكون تأسيساً علنياً لحلف كامل وفق أسس جديدة تجاوزت حتى تلك الأسس التي بنى عليها الخليجيون أنفسهم ما كان يسمى بمبادرة بيروت، والتي تقوم على قاعدة “الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة في العام 1967، مقابل التطبيع الكامل”، بل وخلا من أيّ إشارة إلى “حلّ الدولتين”، وهذا يعني أولاً حرمان السلطة الفلسطينية الحالية من ورقة كان فحواها أن دول الخليج لن تطبّع علاقاتها مع إسرائيل قبل تلبية مطالبها بإقامة الدولة التي منحها لهم “أوسلو” على ضآلتها، وثانياً انتقال حكام الخليج رسمياً، وعلنياً، ليجلسوا بجانب إسرائيل على طاولة أي مفاوضات قادمة.
ابراهام بريئاً .. إسماعيل ينتظر الفداء
منح ترامب الإعلان صبغة دينية حين أطلق عليه لقب “اتفاق ابراهام”، باعتبار هذا الأخير أب الديانات السماوية الثلاثة. لكن هذا “الاتفاق”، وما سيليه، وعلى عكس ما انتهت إليه قصة سيدنا إبراهيم، يريد فعلياً التضحية باسماعيل، ومنح حق وأرض فلسطين التاريخية لـ “إسرائيل” دون مقابل لأبنائها، فهل يعمد هؤلاء لاستعادة قضيتهم ونسج “بساطهم” الوطني الخاص؟! خاصة أنه كان لافتاً قدر الإجماع الفلسطيني على رفض التطبيع المجاني.. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فبين القوى الفلسطينية المتعدّدة ما صنع الحدّاد، ومعه المال الخليجي وأوهام أوسلو، ليبقى الأمل الوحيد بأجيال جديدة تؤمن، وتعمل، بحقيقة أنه لا يمكن فداء “إسماعيل” الفلسطيني إلا بـ “ذبح عظيم”.