كما خطط بريجنسكي.. إثارة الصراعات داخل الكنيسة المشرقية مجال جديد للتدخل واشنطن تدمر الأرثوذكسية كقوة رادعة أمام أخلاقيات السيطرة الأمريكية
“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة
على الرغم من انتقاداتها السابقة لدونالد ترامب، إلا أن بطريركية القسطنطينية قررت تقديم شكوى إلى واشنطن حول تحويل آيا صوفيا إلى مسجد. وأعلن ترامب نفسه “مؤيداً وداعماً” لـ “بطريركية القسطنطينية والبطريرك بارثولوميو شخصياً”، وأكد أنه سيبدأ على الفور تدخلاته الضرورية.. لماذا يتورط الزعيم الأمريكي في نزاعات من هذا النوع في وقت لم يأت بارثولوميو بأدنى بادرة اعتراض على الأوامر الصادرة عن الرئيس التركي، “مقابل” ضمان السلامة المفترضة، وحماية الممتلكات، وحتى بعض مظاهر احترام الماضي المسيحي للبلاد”. ولكن ما يجري الآن هو انتهاك للوضع الراهن، إذ ستواصل تركيا أردوغان تحويل المقدسات المسيحية إلى مقدسات إسلامية، وسيتعين على البطريرك بارثولوميو، الزعيم الروحي للعالم الأرثوذكسي، أن يبدي اعتراضه على الأقل على ما يقوم به أردوغان.
ومن الواضح أن البطريرك اليوناني يحتاج، في هذه الحالة، إلى نوع من “الدعم” الذي يحميه في مشاكله مع الإدارة التركية. وبالطبع، فإن “الدعم” المثالي كان سيأتي من موسكو، وبطبيعة الحال فإن أردوغان يقدر شراكة تركيا مع روسيا إلى حد كبير بحيث لا يمكن أن يعرضها للخطر (روسيا هي القوة الوحيدة الكبرى أو حتى الكبرى المجاورة التي حافظت تركيا معها على علاقة جيدة معها). ولكن، وبعد أن دعم بارثولوميو المتعصبين الأوكرانيين من خلال الاعتراف بوضعهم ككنيسة أرثوذكسية محلية – في تحد لبطريركية موسكو – فإنه من غير المرجح أن يرحب الكرملين ببطريرك القسطنطينية، أو يوجه بتقديم أي نوع من الضمانات له، حيث يسعى رئيس بطريركية القسطنطينية إلى وضع قواعده الخاصة من خلال المطالبة المتزايدة، بمنصب البابوية للكنيسة الشرقية، وهو منصب غير موجود نظرياً. ويبدو أن الأحداث المحيطة بالكنيسة الأوكرانية قد دفعت به نحو توسيع نفوذ مركز بطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية المسكونية (الفانار) على نحو فاعل. ولم يكن قرار منح وثيقة استقلال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية رسمياً عن البطريركية الروسية (توموس) الانتقال الإداري الوحيد من نوعه، فقد سبق القرار إلغاء للقانون الكنسي الصادر عام 1686، والذي منحها حق فصل متروبوليت كييف عن بطريركية القسطنطينية والانضمام إلى بطريركية موسكو. وبعد ذلك، ألغى البطريرك بارثولوميو الأول الوثيقة الذي كان قد منحها لأسقفية الكنائس الروسية الأرثوذكسية في غرب أوروبا، في عام 1999.
إن طلب الحماية من أوكرانيا لا طائل منه، وهذا أقل ما يقال فيه، ليس فقط بسبب التأثير الضئيل لقادتها في السياسة الخارجية، وهم الذين يواصلون التوسل لأوروبا للحصول على قروض جديدة، بل ولأن شراكة كييف مع تركيا بشأن مسألة القرم أهم بكثير من إظهار الامتنان لبارثولوميو لاعترافه بالمتعصبين الأوكرانيين؛ وعليه فالخيار الوحيد هو الرضوخ لترامب!
ولكننا إذا حكمنا على نتيجة الاجتماع الذي استمر 45 دقيقة مع ترامب، فقد أدى الإذعان غرضه، إذ “بدا الرئيس الأمريكي منزعجاً بشدة، وأعرب عن قلقه إزاء مسألة حماية حقوق الإنسان، ولا سيما حرية الأقليات الدينية في تركيا. في الواقع، أعلن ترامب نفسه داعماً ومؤيداً للبطريركية المسكونية، ولشخص البطريرك بارثولوميو، وللقضايا الهلينية، مشدداً على انه سيمضي قدماً بالتدخلات المطلوبة، بحسب مراسل صحيفة “يو إس إيه” اليوناني.
بطبيعة الحال، يمكن للروابط الخاصة بين الولايات المتحدة ورئيس الأساقفة بارثولوميو تفسير غضب الرئيس الأميركي. كما تتردد أيضاً شائعات بأن هناك ما هو أكثر من الطموح الشخصي في قرار بارثولوميو إضفاء الشرعية على المتعصبيين الأوكرانيين. ولئن صح القول بأن بارثولوميو كان يحلم بالاستحواذ على الأبرشيات الأوكرانية، مع الملايين من أتباعها، تحت سيطرته، وبالتالي مضاعفة عدد رعاياه الروحيين على الأقل، فإنه من غير المرجح أن يجرؤ على الذهاب وحده ضد بطريركية موسكو ذات الأهمية البالغة. وقد اتخذ القرار عندما طلبت منه الولايات المتحدة (موطن ما يقرب من نصف المؤمنين الذين يدينون لبارثولوميو بالولاء) ذلك. لقد خمنت واشنطن أن إضفاء الشرعية على الانشقاقيين الأوكرانيين من شأنه أن يضعف الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لبطريركية موسكو، وبالتالي تدمير خيط ثقافي وروحي آخر يربط أوكرانيا بروسيا.
ومع ذلك، فقد قام البطريرك القسطنطينية بعمله، والرئيس الأمريكي لا يدين له بشيء. ولا تبالي واشنطن عموماً بالمشاعر عندما يتعلق الأمر بالحلفاء (أو بالأحرى “الأدوات”) التي لم تعد بحاجة إليها، ويمكن رؤية ذلك من خلال الأكراد الذين تخلت عنهم، وأيضاً من موقفها الفاتر تجاه قادة أوكرانيا. فالبيت الأبيض يتدخل باسم “حماية” البطريرك بارثولوميو لأن ذلك يخدم مصالح السياسة الخارجية لأمريكا والمصالح السياسية الداخلية لدونالد ترامب نفسه. فالرئيس يعمل لاسترضاء الناخبين المحليين، وهو يلعب دور المدافع عن المسيحيين، محاولاً بذلك أن يتناقض مع خصمه الديمقراطي جو بايدن، وقد أعاد بالفعل نشر تغريدات “مرعبة” للناخبين حول نية بايدن تدريس الإسلام في المدرسة، وأن منافسه سيواصل “الحملة الصليبية للحزب الديمقراطي ضد الكاثوليك.”
وبما أن بايدن قد حقق بالفعل بضع نقاط حول قضية آيا صوفيا (أغدق على رئيس الأساقفة الأمريكيين، رئيس أبرشية الروم الأرثوذكس في أمريكا، إلبيدوفروس، كلمات التأييد، وأعرب أيضاً عن أسفه العميق لتحويل المتحف إلى مسجد)، فإن ترامب يثير المخاطر. ومن هنا أخذ البطريرك بارثولوميو تحت جناح أمريكا، وفي الوقت نفسه – بطبيعة الحال – بقي صامتاً إزاء حقيقة أن الانقسام في الأرثوذكسية العالمية – والذي أحدثه بارثولوميو بدعم من واشنطن – لعب دوراً في استحواذ أردوغان على متحف آيا صوفيا. ومن هنا أيضاً كانت دعوة إلبيدوفروس لزيارة البيت الأبيض، واجتماعه مع نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، ورئيسه، وليس مع مسؤولين على مستواه,. ومن الواضح أن إلبيدوفروس لم يقم بزيارة للرئيس الأمريكي ونائبه من أجل مباركة البيت الأبيض، وليس من أجل انتقاد المبادئ الانعزالية لسياسات ترامب، وقد قال أنه والرئيس الأميركي لم يناقشا فقط مصير آيا صوفيا، بل ايضاً “المخاوف الأمنية المستمرة للبطريركية المسكونية وقضايا الحرية الدينية” في تركيا.
تقسيم الأرثوذكسية في أوكرانيا
عملت واشنطن على تقسيم الأرثوذكسية في أوكرانيا بشكل نشط وتدريجي، وتم ذلك على مستويات متنوعة باستخدام ترسانة واسعة من الأساليب.
ففي نيسان 2018، بعد إعلان الرئيس بوروشينكو نيته إنشاء كنيسة مستقلة في أوكرانيا، زار السفير الأمريكي المتجول للحرية الدينية الدولية، سام براونباك، إسطنبول والتقى بالبطريرك بارثولوميو. وبعد فترة قصيرة، طلب البرلمان الأوكراني وثيقة استقلال الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية رسميا عن البطريركية الروسية “توموس”” من بطريركية القسطنطينية. ورداً على ذلك، أعلنت مركز بطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية المسكونية “فانار” أن الإجراءات اللازمة لمنح حكم ذاتي للكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا قد بدأ.
وفي الوقت نفسه، ناشد مجلس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي جزء من بطريركية القسطنطينية، (فانار) لمنح الحكم الذاتي لأوكرانيا، والتقت السفيرة الأميركية في أوكرانيا ماري يوفانوفيتش رئيس الكنيسة الكاثوليكية اليونانية الأوكرانية، سفياتوسلاف شيفتشوك.
إضافة إلى ذلك، وفي نيسان 2018، التقى جيفري بيات، السفير الأمريكي السابق لدى أوكرانيا والسفير الأمريكي الحالي لدى اليونان، بكهنة أديرة آثوس لمناقشة القضايا الهامة المتعلقة بالأرثوذكسية في جميع أنحاء العالم. بعد هذا “الحج” إلى جبل آثوس، بدأ ممثلو الكنيسة الأرثوذكسية الروسية يعانون من مشاكل في دخول اليونان.
لا شك أن قنوات غير رسمية قد استخدمت لضمان نفوذ واشنطن على مركز بطريركية القسطنطينية الأرثوذكسية المسكونية (فانار)، وعلى سبيل المثال، فإن أبرشية الروم الأرثوذكس في أمريكا، أو بالأحرى البعض من كهنتها، مثل الكاهن بروتوبريسبيتير ورجل دين الأبرشية الأمريكية، الكاهن الكسندروس كارلوتسوس، اللذان يتوليان أمر الأموال التي يتم إرسالها من الولايات المتحدة إلى (فانار). وكتبت الصحفية جوستين فرانغولي- أرجيس، مؤلفة السيرة الذاتية لرئيس أساقفة أمريكا السابق، سبيريدون: “منذ التسعينيات على الأقل، يتولى الأب ألكسندر أمر الأموال القادمة من الولايات المتحدة إلى إسطنبول. في الواقع، ذلك هو نصيب الأسد من المال الذي يعيش عليه فانار، فعائدات الأبرشيات الصغيرة في تركيا، أو اليونان، ضئيلة مقارنة مع الأموال التي تأتي من الجالية الأميركية اليونانية الغنية، وقد جعله ذلك أهم شخص في أبرشية الروم الأرثوذكس في أمريكا ومنحه نفوذاً غير مسبوق في تراتبيتها الهرمية”.
تعتبر تصرفات أميركا فيما يتعلق بالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا وروسيا مفهومة. ووفقاً لزبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي السابق للرئيس كارتر: فـ “بعد الانتصار على الشيوعية، نحن [أمريكا] بحاجة إلى تقسيم الأرثوذكسية وتقويض وانهيار روسيا..”.. إنها خطة قديمة وأهداف ثابتة.
لقد أصبحت إثارة الصراعات في العالم الأرثوذكسي مجالاً جديداً للتدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، إذ يتسع الانتشار الجغرافي لأنشطتها بسرعة كبيرة. سوف يؤثر الانشقاق الأوكراني، بشكل مباشر، على روسيا وتركيا واليونان إلى جانب أوكرانيا نفسها. وهناك محاولات لمعالجة التشتت في البلقان. في الجوهر، هو نفس المبدأ المستقل والتفكيك الإقليمي للكنيسة الأرثوذكسية الصربية المتحدة في الجبل الأسود, المقدونية وغيرها من الكنائس.
ربما يعطي ذلك فهماً جديداً لماذا سمى بريجنسكي الكنيسة الأرثوذكسية بالعدو الأكبر للولايات المتحدة. كونها قوة رادعة، إذ تعيق الأرثوذكسية إدخال أخلاقيات جديدة تعتبر وسيلة ضرورية للسيطرة على الجماهير، وعلى العالم.