لمن الكلمة الفصل بالفعل الاقتصادي.. هل هي للتجار أم للصناعيين أم لحيتان المال؟ أن الآوان لمجلس الشعب ليحاسب ويحجب الثقة عن الوزراء المقصرين
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
قد تكون الحكومة هي الجهة الرسمية التي تقود الشأن الاقتصادي، لكنها تتأثر بجهات أخرى تدافع عن مصالحها الخاصة، كالتجار والصناعيين، أو عن مصالح العمال، كالنقابات، بالإضافة إلى مجلس الشعب الذي يراقب الحكومة ويحاسبها ويطالبها بتشريعات وقرارات لتحسين أوضاع المواطنين. ولكل من هذه الجهات أدواته ووسائل ضغطه المختلفة التي يمارسها على الحكومة ليرغمها على إصدار القرارات والتشريعات التي تخدم أهدافها أوأهداف من تمثلهم. والسؤال هنا: لمن الكلمة الفصل بالفعل الاقتصادي؟ هل هي للصناعيين، أم للتجار، ورجال الأعمال، أو حيتان المال، أم هي لاتحاد العمال، أم لمجلس الشعب؟
إذا استندنا إلى ما يصدر من تقارير وتصريحات وشكايات، فإننا سنخرج بانطباع بأن جميع هذه الجهات غير راضية عن الحكومة بما تتخذه من قرارات اقتصادية، بل هي تنفي أي تأثير لها على الحكومة، فهل هذا صحيح؟
حيتان المال!!
لنبدأ برجال الأعمال والتجار والصناعيين، وبصورة أكثر دقة بحيتان المال، لأنه ما من مواطن أو محلل أو أكاديمي إلا ويجزم أنهم الفاعلون الحقيقيون في الِشأن الاقتصادي، وبخاصة في مجالي التجارة والاستيراد. ولكي نكون دقيقين جداً، فإن قلة من كبار رجال المال والتجار المتنفذين يحتكرون النشاط الاقتصادي منذ سنوات طويلة: بعضهم صامد في موقعه منذ عقود، والبعض منهم خرج من المشهد عندما فقد داعميه ليحل مكانه حوت جديد.. هذه القلة تحتكر استيراد المواد الأساسية وتتحكم بأسعارها وبانسيابها إلى الأسواق، وقد استفزت حتى غرف التجارة، فكشف بعض أعضاء مجالس إدارتها عن “وجود محتكرين” دون أن يجرؤ على كشف أسمائهم؛ كما أن هذه القلة تحتكر خدمات أخرى تشفط من خلالها المليارات دون حسيب أو رقيب.
هذا الدور الذي يلعبه حيتان المال، ويستفز ملايين السوريين، هل تصدت له الحكومة؟ وكيف؟
إذا كانت الحكومة لم تستطع إقناع التجار بخفض الأسعار التي أفقرت ملايين السوريين، سواء بمناشدة ضميرهم أم بتهديهم، فليس بوسعنا المجادلة بفرضية أن “حيتان المال هم الفاعلون بالاقتصاد”!
ضغط أم تنازلات؟!
من الطبيعي أن تقدم الحكومة التنازلات لرجال المال والتجار يوماً بعد يوم، عندما تخفق بإقناعهم أو بإرغامهم على خفض الأسعار، أو حتى بتسديد الضرائب المتوجبة عن أرباحهم الفاحشة.
لقد اجتمع رئيس الحكومة السابق، مثل “أسلافه”، بالتجار مرات عديدة، وحاول استرضاءهم بالكلام والقرارات لكي يتوقفوا عن التلاعب بسعر صرف الليرة وبالأسعار، فلم يأخذ منهم سوى الوعود. كما قام وزراء التجارة الداخلية على مر السنوات السابقة باسترضاء التجار ومحاباتهم ومناشدة ضميرهم كي يرحوا البلاد والعباد.. فأخفقوا جميعا!
وأمام “عناد” حيتان المال وصلفهم وتأكدهم من عجز الحكومة عن إلزامهم بخفض الأسعار واحتكار السلع الضرورية، بل والتهديد بحجبها، كانت الحكومات السابقة ترضخ وتتنازل لهم كي لا يمارسوا المزيد من الاحتكار والمضاربة بالدولار ورفع الأسعار. وتجسدت التنازلات بمزيد من المزايا والتسهيلات والإعفاءات الضريبية. والمذهل أن حيتان المال لا يكترثون أصلاً بأي إعفاء ضريبي لأنهم يرفضون تسديد حتى الحد الأدنى الضئيل جداً من أرباحهم، ولهم “عملاء” داخل وزارة المالية يساعدونهم على التهرب الضريبي. والسؤال هنا: لماذا لا تجرؤ وزارة المالية، التي تلاحق صغار المكلفين والعمال والموظفين، على مواجهة رحال الأعمال وحيتان المال؟
نشير هنا إلى أن رئيس الحكومة السابقة كان جريئاً جداً بالتصدي لهذه الظاهرة.. بالأقوال لا بالأفعال! فقد دعا في مطلع العام الحالي إلى “تصويب آلية جباية الضرائب، ومكافحة التهرب الضريبي الذي يعتبر في دول العالم بمثابة خيانة وطنية.. فهناك ملفات متراكمة وأسماء لأصحاب شركات ورجال أعمال، ما يؤكد أن هناك خللاً معيناً، وهناك من يحميهم، وهذا أمر مرفوض قطعاً، ولا نقبل النقاش فيه، فمرجعية الضرائب يجب أن تكون حقيقية ونزيهة، وبعيدة عن المحسوبيات”..
لم نتوقع، عندما قرأنا هذا الكلام الحاسم لرئيس الحكومة السابق، أن يقوم بترجمته إلى أفعال، فقد سبق لمصرف سورية المركزي أن أرسل قائمة بمستوردي المازوت من لبنان، والذين حققوا أرباحاً بالمليارات دون أن يدفعوا قرشاً واحداً لخزينة الدولة، ومع ذلك لم تلزمهم الحكومة بدفع ضريبة الأرباح، أو بالأحرى لم تستطع!
بين التجار والصناعيين
وإذا كانت الكلمة “الأفعل” في الشأن الاقتصادي ملكية حصرية لكبار رجال الأعمال وحيتان المال، فإن غرف التجارة والصناعة تأتي في الدرجة، لا الثانية، ولا الثالثة، بل ربما العاشرة، بالفعل الاقتصادي. ولأن عملها متناقض، فإنها تتنافس على انتزاع القرارات التي تخدم أعمالها.. أي أرباحها.
ويتجسد التنافس بتبادل الاتهامات والانتقادات بين اتحادي غرفتي الصناعة والتجارة، فالتجار يريدون استيراد حميع السلع والمواد بما فيها المنتجة محلياً، والصناعيون يريدون من الحكومة حصر المستوردات، وألا تسمح بما له مثيل محلي.. والنتيجة أنه لا التجار راضون، ولا الصناعيون راضون، بما يصدر من قرارات حكومية، مع أن كفة الميزان تميل دائماً لصالح التجار. صحيح ان المصلحة الوطنية تفرض على الحكومة الانحياز إلى الصناعة الوطنية، بشقيها العام والخاص، لكن الوقائع تؤكد أن الكلمة الأفعل في الاقتصاد هي – بعد حيتان المال – للتجار.. لا للصناعيين!
قد تكون الحكومة تميل إلى الصناعيين بدليل انها خصصت جلسات عدة للتنفيذ توصياتهم ومطالبهم، ووجهت الوزارات لترجمتها بقرارات، لكن الواقع يقول عكس ذلك، فما يصدر من إجازات استيراد يشير إلى نجاح التجار بتوريد سلع ينتجها الصناعيون، والأنكى ان بعضها معفى، أو يحظى بتسهيلات ضريبية، لأن وزارة الاقتصاد اعتبرتها كمادة أولية. وما يجري في صناعة النسيج، وهي الأهم في سورية بما تنتجه، وبما توفره من فرص عمل، مثال على انحياز الحكومة التام للاستيراد لا للتصنيع. وقد قالها رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، فارس الشهابي، بوضوح شديد: “الصناعة والإنتاج بحاجة للدعم والمؤازرة للنهوض من جديد، وإذا لم يلب الفريق الاقتصادي الحكومي طلباتنا، وينفذ وعوده لنا، فلن ينفع شيء.
وسبق للاتحاد أن تقدم بهذه المطالب للحكومة، خلال انعقاد المؤتمر الصناعي الثالث، الذي عقد في حلب، في تشرين الثاني 2018، وتضمنت العديد من القضايا التي تسهّل عمل الصناعة والصناعيين، وتسهم في إعادة دوران عجلة الإنتاج.. ومع أن الحكومة وعدت بتنفيذها إلا أن التجار كانوا بالمرصاد.. ففرملوا صدورها!
قد لا يعترض التجار على إعفاء الصناعيين المتضررين من الغرامات والفوائد، وجدولة قروضهم المتعثرة، لكنهم يعترضون بشراسة على حماية الصناعة النسيجية، أو أي قرارات تحفّز على التعافي والإنتاج، وعودة رؤوس أموال الصناعيين المهاجرة.
بدائل المستوردات
وما أن طرحت الحكومة مشروع تصنيع بدائل المستوردات حتى استنفر المتضررون من القرار، لأنه – في حال تنفيذه – سيلحق الضرر بعشرات المستوردين، ويحد من أرباحهم واحتكاراتهم، ويُضعف من تأثيرهم السلبي بسعر صرف الليرة. وبما أن وزارة الاقتصاد هي المعنية بتنفيذ القرار، فالكل يعلم أن المتضررين لديهم – كما في وزارة المالية – شبكة من صناع القرار في وزارة الاقتصاد، تعمل بأمرتهم المباشرة، وتستنفر إمكاناتها لإفشال خطط تصنيع بدائل المستوردات، أو تفريغها من مضامينها بجعلها حبرا على ورق. وقد نجح المستنفرون حتى الآن بفرملة الخطة من جهة، وبانتزاع قرارات من وزارة الاقتصاد مناقضة لتصنيع بدائل المستوردات من جهة أخرى، كان أخطرها صدور قرار باعتبار الأقمشة والغزول مواد أولية.. هذا القرار، الذي وصفه اتحاد غرف الصناعة السورية بـ “الكارثي!!”، شكل انحيازاً تاماً للمستوردين، وضربة قد تكون قاضية لصناعة النسيج السورية واستنزافاً يومياً للقطع الأجنبي!
والأمر لا يتوقف على وزارة الاقتصاد فقط، وإنما على اللجنة الاقتصادية التي يجب ان تكون حريصة جداً على التنفيذ السريع لتصنيع بدائل المستوردات، فهي أيضاً انحازت إلى المستوردين، أو بالأحرى رضخت لهم، ووافقت على استيراد الزيوت النباتية لصالح قلة من التجار الذين لن يتخلوا طوعاً عن تجارة تدر عليهم المليارات.. والسؤال: مادام لدينا مصانع عامة وخاصة لتصنيع الزيوت، فلماذا استيرادها كرمى جيوب مستوردين متنفذين؟
لمن يقرع العمال أجراسهم؟
نظرياً، يجب أن يكون اتحاد العمال الأقوى في الفعل الاقتصادي، بل يفترض أن تكون كلمته لا ترد لدى الحكومة، وهو الناطق باسم أكثر من خمسة ملايين عامل في سورية، فهل هذا هو الواقع؟
منذ صدور قانون الاستثمار رقم 10 عام 1991، تراجع فعل اتحاد العمال لصالح رجال الأعمال والمستثمرين، ومن بعدهم حيتان المال. ومع أن الاتحاد أنجز عشرات الدراسات والتقارير الاقتصادية، ورفعها إلى رئاسة مجلس الوزراء، فإنه لم يستطع أن يؤثر على الحكومة لتصدرها بقرارات، على الرغم من انها تخدم اقتصاد البلاد وتطور معيشة العباد.
ومعظم الدراسات العمالية موثقة بالأرقام، وتستند على معطيات واقعية، وتدعو إلى إصلاح اقتصادي ركيزته القطاع العام، وإلى إصلاح مالي وضريبي.. ولكن دون جدوى!
نعم.. اتحاد العمال يقرع أجراس الخطر والإصلاح والحرب على الفساد منذ عقدين من الزمن على الأقل، ولكن الحكومات السابقة اعتبرت نفسها غير معنية، بل هي لا تريد سماع أجراس اتحاد العمال، لأن آذانها موجهة دائماً للتجار ولرجال الأعمال وحيتان المال.
.. ماذا عن مجلس الشعب؟
لم يتوقف المواطنون عن انتقاد مجلس الشعب لأنه أخفق في أدواره التشريعية السابقة بالتأثير على الحكومة وإلزامها بإصدار قرارات وتشريعات لتحسين الاقتصاد والأحوال المعيشية لملايين الأسر السورية.
ولا ننسى هنا أن 51% من أعضاء المجلس يفترض أنهم يمثلون العمال والفلاحين، أي يجب أن يكون المجلس هو الأقوى بالتأثير والفعل الاقتصادي، وبخاصة تحسين أحوال الناس المعيشية، ولكن بقي تأثير مجلس الشعب على الحكومة بحدود الصفر!
وبما أن لدى المجلس صلاحية محاسبة الحكومة، فلماذا لم يحاسب الحكومات السابقة على تقصيرها اقتصادياً وانحيازها للتجار ورجال المال؟
الحكومات في الأدوار التشريعية السابقة قصّرت في الكثير من المجالات الاقتصادية، فلماذا لم يستجوب مجلس الشعب الوزراء المقصرين، ويحجب الثقة عنهم، كما فعلها في عام 1988؟
أكثر من ذلك، لم يشكل مجلس الشعب في أدواره التشريعية السابقة أي لجان خاصة للتحقيق في أي قضية فساد، أو أزمة تعصف بحياة الناس، كارتفاع الأسعار، وتدهور الحياة المعيشية، وتراجع القدرة الشرائية لليرة وارتفاع معدلات البطالة.. إلخ.
والسؤال هنا: هل أخطأ الناخبون باختيار ممثليهم في الأدوار التشريعية السابقة؟ بل هل انتخبوا فعلاً من يمثل العمال والفلاحين؟ أم ماذا؟
نأمل أن يكون المجلس الجديد في دوره التشريعي الثالث مختلفاً تماماً، وأن يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، فيراقب عمل الحكومة، ويشكل اللجان التي تهم البلاد والعباد، ويناقشها في جلسات عامة يخرج منها بتوصيات ملزمة للحكومة، وأن يحاسبها على تقصيرها، ويرفض القرارات المنحازة لقلة من المحتكرين والمتنفذين، وأن يحجب الثقة عن الوزراء المقصرين، بل وعن الحكومة كاملة إذا أخفقت بتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية.
رؤية شاملة
وبما أننا أمام مجلس شعب جديد، وقريباً أمام حكومة جديدة، فإننا نأمل مع ملايين السوريين أن يتغير مستقبلنا نحو الأفضل. ويمكن أن يحدث ذلك في حال قامت الحكومة، وكذلك مجلس الشعب، بترجمة ما جاء في كلمة السيد الرئيس بشار الأسد الأخيرة أمام أعضاء مجلس الشعب الجديد.
لقد رسم الرئيس الأسد رؤية استرتيجية واضحة لسورية المستقبل على جميع الصعد، ومن ضمنها الاقتصاد، وعلى الحكومات التي ستتشكل خلال المرحلة القادمة أن تترجم هذه الرؤية من خلال خطط حدد الرئيس الأسد أبرز معالمها: زيادة الإنتاج في كل القطاعات، ودعم تصنيع وتسويق المنتجات الريفية والمنتجات الأسرية، ودعم الاستثمارات الصغيرة، أما القطاع الأهم – وهو الزراعة – فهو الأقدر على دعم دورة الاقتصاد بحكم دوره في مجتمعنا واقتصادنا منذ الأزل، لكن دوره تأثر سلباً بميل الكثيرين لاقتصاد الخدمات الذي نما على حساب الاقتصاد الزراعي.
بالمختصر المفيد: آن الآوان لتضع الحكومة حداً لنفوذ التجار ورجال الأعمال والمال، وتمنع تدخلهم سلباً في الشأن الاقتصادي والمالي، وأن تعمل مع اتحادي العمال والفلاحين وغرف الصناعة ومجلس الشعب على ترجمة رؤية الرئيس الأسد لسورية المستقبل من خلال خطط خمسية أوعشرية.