محسن خانجي يزرع الأسئلة الباحثة عن المجال المغناطيسي الواصل بين السماء والأرض
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
كيف تواصل الجماليات بصائرها متحدية بشموسها الظلام؟ وما أهم ميزات المرحلة التي مرت على وطننا السوري في الحرب التخريبية التي ردّها على نفسها لتدمر ذاتها بذاتها؟ وما دور الإبداع كفضاء روحي ظاهر ومستتر في عملية الإزهار؟ الوطن المبدع يتحدى بجذوره الحضارية وكينونته الأبدية الكوارثَ الطبيعية والبشرية لينتصر على انعكاساتها السلبية المدمرة ويوظفها بطريقة إيجابية تعميرية لأنه يعرف كيف يدير اللحظة المعتمة ويجعلها تموت قبل أن تولد.
لذلك، لا ولن يسمح المبدع العربي السوري للدمار والتدمير أن ينال من روحه المشرقة عبْر الأزمنة والأمكنة، وهذا ما يعكسه المواطن السوري في حياته اليومية عموماً، والمبدع خصوصاً، وما أثبتته الأزمات والكوارث والحروب على مر الأزمنة، وما لاحظه العالم بقوة في الحرب الكونية على سوريتنا الحبيبة. ولأننا اعتدنا على “الحقيقة كما هي”، رغم أنه لا حقيقة مطلقة، فإننا نصرّ على ما قاله المتنبي: “وليس يصح في الأفهام شيء إذا احتاج النهار إلى دليل”.
ضمن هذا المضاد الحيوي للدمار والتدمير، تحرك الخط البياني للنص البصري بين صعود وهبوط، لكنه ظل راسخاً في الأعماق، طافياً على اللحظة الأشد قتامة، منتصراً لبناء الإنسان والتعمير، فلم تتوقف المعارض الفردية والجماعية في الصالات الفنية والمراكز الثقافية والمعارض الفنية “الغاليريهات” العامة والخاصة.
وكان من أهم أسباب التمايز الانفتاح على التنوع الذي تتسم به المشهدية الفنية بين الكلاسيكية والرومانسية والواقعية والرمزية والسحرية والتجريدية والخرافية والتجريبية والصوفية والسوريالية وجماليات الخط والكلمة والحكاية والقصيدة والقصة والبانوراما اللونية والإيقاعية، ولذلك شهدت الصالات الفنية والمعارض حركة متجددة بعد الانتصار، كما برزت تجارب فنية شابة جديدة تعبّر عن معايشة الجيل للحرب الكونية على سورية، ومنها فريق “آرام” الذي حفر الصمود والنصر والضوء على صخور نفق مظلم. ولم تبتعد تجارب الكثير من الفنانين التشكيليين عن الحضور ومكافحة وباء التدمير ووباء كورونا بالأعمال المختلفة بين رسم وخط ونحت ومجسمات.
على خلفية هذه الإيقاعات البصرية المضادة للظلامية، نضيء على ذاكرة فنية أولى، من خلال حوار مع محسن خانجي كفنان حلبي تشكيلي.
الفن جندي ثان
التشكيلي محسن خانجي علامة من علامات حلب الفنية المعاصرة، وإضافة إلى تجربته الفنية هو مؤسس غاليري الخانجي للفنون الجميلة (1990)، والتي تعتبر نهراً مستمراً بفعالياته المتجددة وأحداثه الفنية الثقافية المتنوعة.
تتميز أعماله بمحور الترابي والسماوي وتدرجاتهما وإضاءاتهما وتحولاتهما وكأنه يزرع الأسئلة الباحثة عن المجال المغناطيسي الواصل بين السماء والأرض من خلال الإنسان، كما أن ريشته تتمتع بثيمة الفنية الحيوية التناغمية بين مفردات اللوحة وعواملها وهدفها ومضمونها وموسيقاها الخاصة التي تغلب على حواسها رهافة الروح المرفرفة بين المواد والخامات المتنوعة.
عن هذه الجماليات وبداياته وتشكيلاته يخبرنا: الموهبة إلهية وتبزغ منذ الصغر، والطفل يلعب بالألوان والحجارة والأشياء ليكتشف، والإنسان هو المتحرك بين الزمان والمكان، والفنان يرى الأشياء والأمكنة والأزمنة بتاريخها وحاضرها ومستقبلها برؤية خاصة تقرؤها لوحاته المعبّرة عن مكنوناته وأفكاره وأتراحه وأفراحه ومشاعره المختلفة ورؤاه الكاشفة، لتظل الفضاءات علاقة جدلية دائمة لا تقف عند زمان واحد ومكان واحد.
واستعاد ما بين طفولته وطفولة اللوحة، قائلاً: بداية الإنسان كبداية اللوحة، تكبر شيئاً فشيئاً من فهم وتكوين ومعرفة ولون وتشكيل وظل ونور، وليس هناك فرق بين الإنسان الفنان واللوحة. أمّا عن العلاقة بين ما يشبه ابتسامة “الموناليزا” وشخوص أعماله، فأجاب: ابتسامة الحزن الدائم والفرح العابر.
لكن! لماذا جعلت من الفلكلور والتراث والأساطير محور تشكيليتك المتضافرة مع الأزمنة؟ ماذا يعني لك زمن العمل الفني؟ وكيف تجسده من خلال الكتلة والفراغ؟
يردّ خانجي: روحي متفاعل زمني، ولكل مرحلة أفكارها.. أحياناً، أعيد قراءة التاريخ بحوادثه وأحداثه وأساطيره، فتتكون أفكار ورؤى كثيرة أسقطها على هذا الحاضر المعاش، لأنني أشعر بأن التاريخ يعيد نفسه لكن بصور ورموز جديدة.
ويسترسل: الفنان يعي ما يطرحه في نصه البصري، ثم يأتي القارئ ليفكك الرسالة والمعنى والإشارات!
أخبرنا عن فاعلية الفن أثناء الأزمة والحرب الكونية في سورية: أقمت معرضاً عن الحرب بكل مفرداتها الداخلية والخارجية وأسميته “سراب”، وعالجت من خلاله معاناة السوري الذي هاجر والذي لم يغادر.
وأكد: الفن في سورية صمد، وفي صالتي أقمت أكثر من 15 معرضاً فنياً فردياً وجماعياً أثناء الحرب، لأن الفن مثله مثل أي مقاومة ضد الظلم ودفاعاً عن البلد، لأنه الجندي الثاني في الوطن.
وتابع: طالما نحن أحياء في هذه البلاد سنستمر في العطاء والدفاع عنها بكل ما فينا من مقاومة وفن وعلم وثقافة ومعرفة وتقدم، لأن الحياة لا تقف عند عثرة، بل هي مستمرة بكل ما فيها من فعاليات أدبية، فنية، مسرحية، موسيقية، علمية.
واسترسل: رغم أن عمر الفن التشكيلي في سورية لا يتجاوز الستين عاماً إلاّ أن سورية فعلاً فسيفساء الكرة الأرضية لأن فيها ثقافات وتاريخ وحضارات العالم كله، ولأنها كانت وما زالت معبراً لكل الأمم، ولفننا سمة خاصة.
وأضاف: لذلك، علينا أن نبحث من جديد عن تراثنا السوري القديم، ونطوره فنياً من خلال واقعنا المعاش.
ورأى أن التأمل والتصوف والشعر العربي من أهم سمات تاريخنا الجميل، وتتمتع خطوطنا العربية بجماليات خاصة ومتجددة لا يمكن الاستغناء عنها، خصوصاً وأنها ركيزة من ركائز الفن السوري.
وعندما سألته عن حضور الصامت كصائت في لوحاته، لا سيما تلك المبنية على تشابك الحواس والبصيرة المعتمدة عى مخادعة اللون جمالياً بالنافر تارة، وبإيقاعات الملحمة تارة أخرى، وهل وصل لحكايته الأساسية مع التشكيل؟ أجاب المبدع محسن خانجي: أنا دائم البحث والتجربة في الفن.. لا أقف عند حالة معينة، أو موضوع معين، أو تقنية معينة، أو “كاراكتر” خاص، وأميل إلى التنوع والبحث عن موضوع جديد أعمل عليه تاريخياً، روحياً، إنسانياً، وأجسد المعاناة المتجاوزة للزمان والمكان، وأختار مواضيع لمعارضي، مثل “أيقونات مشرقية”، “المولوية بين الحركة والسكون”، “العشق الأزلي”، “تداعيات الإنسان والكون”، “السجاد والبساط الحلبي”، “التاريخ والرموز”، “سراب” لأزمة سورية، ومعرضي القادم بعنوان “سجون الإنسان”.