ريحان حلبي
د. نضال الصالح
بعينين لاهثتين كنتُ أبحثُ عنّي، وبصوتٍ يضيقُ به المدى أنادي عليَّ. رآني الجليلُ منهَكاً بي، فقال: “وذلكَ أوّلُ المعرفة، فمَن عرفَ نفسَه عرفَ غيره”. فانهمرتُ: “يا معلّمُ، كأنّي ضللتُ الطريقَ إليّ. زمنٌ وأنا أهزّ نخيلَ الأسئلة، فيساقطُ عليّ ريبةً معقودةً بريبةٍ عن هذا الخراب الذي يتمدّدُ حولنا، عن الإنسان المجاز الذي يتناسل ويتكاثر حتى يكاد يملأ كوكب الأرض. زمنٌ وأنا مؤرّقٌ بالحنين إلى عالَم خالٍ من الدنس. عالَم أحاولُ صياغته على هواي، فأرتطمُ به كما لو أنّه من الصخر”.
قالَ: “ومَن عرفَ غيره كانَ الحقُّ أنسبَ إليه من سواه”، وتابع: “رأسُ العلم ومفتاحُ الحكمة معرفةُ النفس. وكان سهلُ بنُ عبد الله قال: ومعرفةُ النفس أخفى من معرفة العدوّ. وقال غيره: ملاكُ الأمر معرفةُ النفس. وللشيخ ابن عربيّ في فتوحاته المكّية ما لا يحيط به مقامٌ في هذا المدار. وفي تفسير حقّي أنّ أوّلَ الكمالَ الآدمىَّ في العلوم الحقيقية معرفةُ النفس. وجاءَ في المثنويّ أنّ المعرفةَ لا تكون إلا بالعمل بها”.
ثمّ صمتَ الجليلُ، ثمّ أنشدَ: “هي النّفسُ إن ألقَتْ هواها تضاعفت قُواها وأعطَتْ فِعَلها كُلَّ ذرّة”، ثمّ أمعنَ في صمتٍ كأنْ ما مِنْ قولٍ بعد الذي قال، وبدا ذاهلاً عنّي، بل عن كلّ شيء حوله، حتى ذلك الندى الذي بدأ يختال بنفسه فوق أوراق الشجر الذي نبتَ حولنا ولم يكن من قبلُ. وشأنه أوّلَ ما رآني ألوب بعينين لاهثتين أبحثُ عنّي، ردّد: “ومَن عرفَ نفسَه عرفَ غيره”، ثمّ قال فيما يشبه الغناء: “ويُلحُون نَفْسِي في هَواها وإِنَّها، شقيقَةُ تِلْكَ النفسِ ريحانةُ القلبِ”، ثمّ كأنّه لم يكنْ.
وحيداً سمعتُ روحي تصرخُ ملءَ روحها: “أيّها الريحانُ، يا ريحانةُ. يا ريحانةَ القلبِ”، وكانَ صوتي يقلقُ الفضاء الراعش بالغيم جوىً، وشوقاً، وحنيناً إلى ريحانٍ حلبي كانَ. ريحانٍ لمّا يزل هواءَ روحي وماءها وخفقَها ومعنى وجودها، وخلاصَها من غبار الزيف. وقبلَ أن يرتطمَ الصوتُ بي، ويثخنني بالذكريات عن ريحانةٍ كانت تضاحكُ باحة البيت الذي رأيتُ ضوء الحياة فيه أوّلَ مرةٍ، تباسقَ حولي، وفيّ، ما عرفتُ وما لم أعرف من الورد، من الياسمين، وشقائق النعمان، والسوسن، والنرجس، والجوريّ، والخزامى، والليلك، والزنبق، والقرنفل، والأقحوان، والبيلسان، والجلّنار.
وفيما أنا أعدّدُ، وأسمّي، وأطلقُ لرئتيّ حنينَهما إلى هواءٍ هو هواءٌ بحقّ، رأيتُ الغزالةَ التي كنتُ أخاصرها في حارات حلب القديمة، ونمضي معاً إلى عالَم يخصّنا، ثمّ أسرقُ من شقائق خدّيها زاداً لروحي. الغزالة التي كانت تُضرمني بسوسنِ فتنتها، فأحسبُ حلقاتِ الأبواب خلاخلَ في قدميها، وحجارةَ البيوت عرائشَ من الريحان في كفّيها. الغزالة، المدينة، التي عرفتُ نفسي فيها. الغزالة، المدينة التي كانت تعطّرني بضوع ضفائرها كلّ صباح، فأتجلّى ريحاناً، وتتجلّى المدينةُ نفسُها ريحاناً يشبهها.. يشبهني.. ويرتّلُ لنا معاً: فبأيّ آلاء ربّكما تكذّبان؟