الممكن
محمد راتب الحلاق
يقول الفلاسفة: إن الممكن هو إحدى جهات الوجود. ويقرّر الفيلسوف (كانت) أن من طبيعة الفهم الإنساني، ولمصلحته، أن يقيم تمييزاً حاداً وحاسماً بين واقع الأشياء وإمكانها، وأن فكرة الإمكان لا توجد إلا في عالم الإنسان، فهي غير موجودة في العالم الأدنى حيث الغرائز والحواس وردود الأفعال الارتكاسية، ولا في المستوى الأعلى حيث الفعل المحض والخلق المستمر، فالممكن مرافق للإنسان، هذا المخلوق الذي يقع بين بين، فهو يرسف في حواسه وغرائزه في جانب، ويشرئب عبر عقله وخياله إلى حيث المطلق في جانب آخر.
والممكن لا زمان له، الواقع وحده من يمتلك حاضراً وماضياً ومستقبلاً، وفي اللحظة التي يتحقّق فيها الممكن، إن أتيح له أن يتحقّق، يغدو حاضراً، وتبدأ علاقته بالزمان.
أقول هذا وأنا على علم بأن الفلاسفة التجريبيين والوضعيين ومن نحا نحوهم في التفكير كثيراً ما تبرموا من فكرة الممكن تبرمهم من كل ما لا يقدمه الواقع المشخص، فأعلى واجبات المعرفة عندهم أن تعطينا الحقائق. وعندهم أن النظرية والأفكار التي لا تؤسّس على الحقائق التي تثبتها التجربة إنما هي قلعة معلقة في الهواء. ولكن هل الحقيقة هي مجرد جمع حقائق حسيّة كما يفهم من كلامهم؟! أوليست حقائق العلوم الطبيعية نفسها تشمل دائماً عنصراً نظرياً مجرداً، بل إن كثيراً من الحقائق العلمية المهمّة التي غيّرت مجرى تاريخ العلم الطبيعي إنما كانت حقائق افتراضية قبل أن تغدو حقائق واقعية؛ بل إن الفرضية، وهي عنصر مهم في منطق العلوم ومناهجها هي احتمال ممكن وتفسير مؤقت لظاهرة ما، ثم تأتي التجربة لتؤكد أو ترفض هذه الإمكانية المحتملة. بل إن الجسم الذي يتحرك من دون أن يتأثر بأية عوامل خارجية، والذي افترضه (جاليلو) لم ولن يشاهد أبداً، أي إنه لم يكن واقعياً، وإنما كان إمكاناً عقلياً مجرداً لا يمكن أن يتحقّق في الواقع، مع ما ترتب عليه من نتائج مهمّة في الفيزياء (قانون سقوط الأجسام). فوجود الممكن ضروري لتقدم العلوم والثقافات والآداب، فالفلاسفة والمفكرون والأخلاقيون والقادة السياسيون والمصلحون وصانعو الثقافة العظماء لم يكونوا يفكرون من خلال الواقع فحسب، وما كان لأفكارهم أن تتقدم لولا أنهم قد وسّعوا حدود الواقع واستعلوا عليه، واستشرفوا بشفافية عبقرية معالم الممكن وآفاقه، بما يملكونه من ملكات عقلية وأخلاقية فذة، وخيال واسع، وبصيرة نفاذة، فكل النظريات الأخلاقية والأدبية والعلمية لم يتعامل أصحابها مع الواقع بما هو واقع، بل تعاملوا معه كما يجب أن يكون، أي كما يمكن أن يكون.
وفكرة التعالي عن المعطى واستشراف آفاق الممكن نجحت في الاختبار دائماً، وأثبتت أهميتها في تحقيق التطور والإنجازات الكبرى في المجالات كافة، فالرواد قد تعاملوا مع ما يبدو وكأنه مستحيل على أنه ممكن، وفسحوا له المجال بدل الاستسلام للراهن السلبي الذي انتهت صلاحيته، فالفكر المتوثب لتجاوز الواقع هو الذي يتغلّب على القصور الذاتي للإنسان، ويمنحه القدرة على إعادة تشكيل العالم (الإنساني والطبيعي) من جديد وباستمرار.
والممكن في مجال الآداب، أو في أي مجال من المجالات، لا يقدّم صورة فوتوغرافية تفصيلية لما يمكن أن يحدث في المستقبل، وإنما هو تطلع لتشكيل هذا المستقبل وفق رؤية ممكنة، تحمل مبررات (ومسوغات) التحقّق، بحيث تكون هذه الرؤية هادياً على طريق التطور، على أساس أن من حق الإنسان، بل من واجبه، أن يغيّر الواقع نحو الأفضل باستمرار.