قراءة اقتصادية في ملف الشركات التأمينية
من المجمع عليه محلياً وعالمياً، أن التأمين حاجة ومطلب فردي ومؤسساتي، نظراً للضمانة المالية التعويضية الاحتياطية الآنية والمستقبلية، التي يحقّقها المشتركون به عند تعرّضهم لأضرار ينصّ العقد التأميني على قيام الشركة التأمينية بالتعويض عنها، جزئياً أو كلياً، في الحالتين البشرية والمادية، لقاء اشتراك مالي شهري أو سنوي، يدفعه المشترك لشركة التأمين. وقد حظي هذا التأمين بإقبال الكثيرين، أفراداً ومؤسسات، ولكن هذا التأمين بدا، وبشكل جليّ أيضاً، أنه مطلب شريحة من حاملي رؤوس الأموال التواقين لاستثمارها في هذا الميدان الآمن والضامن لأرباح كبيرة، بدليل تهافت هؤلاء لترخيص العديد من الشركات التأمينية المتنوعة، التي غزت السوق السورية في هذا المجال.
لعقود مضت، كانت الجهات الرسمية تغطِّي بعض جوانب هذا التأمين، بمطالب أقل من المشترك وبعوائد مقبولة له، وله حرية الاختيار في الاشتراك أو عدمه، بل إن بعض الجهات الرسمية كانت وما زالت تقدّم خدمة صحية كبيرة للعاملين لديها من دون حسميات تُذكر عنهم، وبعض هذا التقديم ما زال قائماً، بالتوازي مع ما تقدّمه شركة التأمين، فجميع المعلمين منتسبون إلى نقابة المعلمين، وأغلبهم مشتركون في الخدمة الصحية التي تقدّمها النقابة، وإلى جانب ذلك جميعهم ملزمون بالاشتراك مع شركة التأمين، والمعلم يعاني من ضعف التعويض الذي يحصل عليه من أي من الجهتين بسبب أن مواصفات معالجة حالته الصحية لدى جهة التأمين المشترك بها (النقابة أو شركة التأمين)، لا تقارب ما هو قائم فعلاً عند الجهات المعالجة المتعاقدة مع الشركة. ولسنوات خلت كان الطبيب المتعاقد مع نقابة المعلمين يتقاضى قيمة رمزية كمعاينة من المعلم الذي يحمل بطاقة صحية من نقابته، والحال نفسه لحاملي هذه البطاقة من نقابات أخرى، ولكن هذا الحال لم يعد قائماً منذ سنوات، فمعظم الأطباء وربما جميعهم، يتجاهلون البطاقة النقابية ويتقاضون كامل المعاينة، وقد تزيد عن التعرفة الطبية الرسمية. وأيضاً من المعروف أن المعاينة الطبية مدفوعة الأجر كاملاً من شركات التأمين للأطباء المتعاقدين معها، إلا أن أغلب الأطباء درجوا –منذ سنوات– على تقاضي /500/ ليرة أو أكثر إضافية من حامل البطاقة التأمينية، وحالياً نسبة غير قليلة منهم يتقاضون مبلغاً يزيد عن ذلك، ويكاد يقارب قيمة مجمل المعاينة، بحجة أن شركة التأمين لا تعطي الطبيب إلا مبلغاً زهيداً، وتتأخر بدفعه، أو بحجة أن الطبيب قام بإجراء بعض الاختبارات الطبية الإضافية للمريض، والحال نفسه عند الصيادلة بحجة ارتفاع سعر الدواء، وعند مراكز التصوير الشعاعي ومخابر التحاليل الطبية، بحجة ارتفاع أسعار المواد المستخدمة، عدا عن أن شركة التأمين لا توافق على صرف بعض الأدوية أو الصور أو التحاليل، وهذه المعاناة قائمة لدى معظم المشتركين نقابياً وتأمينياً.
والسؤال الكبير: لماذا هذا الاشتراك التأميني المزدوج.. لماذا لا تكون علاقة العامل التأمينية علاقة واحدة، خالية من كل خلل مع الجهة التي يعمل بها أو النقابة التي ينتسب لها، المفترض بل والمتوجب أن تكون هي الأولى والأكفأ بخدمته التأمينية الصادقة، لقاء حسم مبلغ معيّن من راتبه الشهري؟، أليست هي الأحق بالربح الكبير المتحقق من ذلك، والذي يعود لاحقاً لمصلحة العامل ولمجمل مصلحة الوطن، بدلاً من أن يكون من نصيب جيوب شركاء شركات التأمين؟.
وحالات الشكوى من خلل التأمين المادي أيضاً قائمة، بالتوازي مع الشكوى من خلل التأمين البشري، فحال تعرض أية سيارة أو مؤسسة مؤمنة لحادث ما، فالوقائع تؤكد أن التعويض الذي يتمّ صرفه للمتضرر هو حاصل خليط حالات فساد مشترك من المحامي والخبير والقاضي وممثلي شركة التأمين وطالب التعويض، ويندر أن يكون المبلغ المصروف لطالب التعويض موازياً للضرر الحاصل، فقد يزيد أو ينقص تبعاً لتفاهمات الفساد الداخلية بين الأطراف المعنية، التي تثمر عن توزيع العوائد بين الأطراف الخمسة، وغالباً ما يكون صاحب التعويض هو صاحب الخيار الأضعف، والمبلغ الأقل نسبياً.
الجديد في الأمر أن ارتفاع أسعار الأدوية وأسعار مواد التصوير الشعاعي والتحاليل الطبية، وتكاليف إصلاح الآليات والمعدات، دفع شركات التأمين الصحي لرفع الرسم التأميني سنوياً مع بداية كل دورة، فكل عام ترفع قيمة اشتراك المتقاعدين، وقبل أسابيع رفعت التأمين الإلزامي للسيارات بما يقارب الضعف، ومؤخراً تمّ البدء بحسم مبلغ إضافي من رواتب المعلمين لمصلحة شركة التأمين، كل ذلك دون استشارة المشترك، الذي هو رهن قرار شركة التأمين وممارسات أطرافه، ولا خيار له في ذلك!!.
وعلى اعتبار أنه عادة ما يتم البحث في ضرورة العمل على إحداث بعض التوازن بين الأرباح الكبيرة التي تحققّها هذه الشركات كل عام، والمخالفات التي ترتكبها الجهات المتعاقدة معها (أطباء– صيادلة– مخابر أشعة ومخابر تحاليل طبية، والمقدِّرين للضرر الحاصل فيما يخص الآليات والمعدات..)، والغبن اللاحق بالمشتركين في التأمين، ألا يجدر أن يتمّ الإعداد وفق تراتبية معلنة ومدروسة، لأن تكون الجهات الحكومية أو المنظماتية هي الجهات المؤمِّنة لأطرافها لاحقاً، لقاء اشتراك تأميني أقل من الذي تتقاضاه شركات التأمين؟، فلتكن وزارة النقل هي المؤمنة لجميع الآليات بالتعاون مع نقابة النقل، واتحاد الحرفيين هو المؤمّن للحرفيين، ووزارة الصناعة للصناعيين بالتعاون مع غرف الصناعة، ووزارة التجارة للتّجار بالتعاون مع غرفة التجارة، ووزارة الزراعة هي الجهة المؤمنة للمزارعين، بالتعاون مع اتحاد الفلاحين وغرفة الزراعة، وأن تكون وحدات الإدارة المحلية هي الجهة المؤمنة للقطاع الأهلي وغير المنظم.
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية