التغلغل التركي في لبنان.. أهداف توسعية
د. معن منيف سليمان
يسعى رئيس النظام التركي أردوغان إلى التغلغل في لبنان عبر امتلاك أكبر عدد ممكن ومتاح من أوراق اللعبة الإقليمية، وكل الملفات، طمعاً في ثروات ونفوذ وسيطرة تحقق له أهدافه التوسعية واستعادة دور ومكانة أجداده العثمانيين، أو بأن يكون طرفاً أصيلاً على كل طاولات التفاوض والتحالفات وإعادة ترتيب الأوراق.
يوظّف أردوغان عدّة آليات لاختراق المجتمع في لبنان، عبر توظيف الجماعة المتطرفة والمساعدات الإنسانية. وتمتلك تركيا عدة أدوات في هذا المجال من خلال علاقاتها بجماعات الإسلام السياسي، وبالاقتصاد عبر شركات ووكالات، والجزء الآخر من خلال الأعمال الخيرية.
إن الأزمة التي يعيشها لبنان منذ العام الفائت، والتي أثارت احتجاجات شعبية واسعة، فرضت حالة من التشرذم على الساحة اللبنانية، وعمّقت من أزمة المجتمع اللبناني. هذه الظروف توائم السياسة التركية التي تتدخل لتحقيق المطامع الأردوغانية.
لقد كثفت أنقرة من النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في لبنان كمقدمة لتفجير ما، تمهيداً للسيطرة أو التمدد السياسي بهدف حجز موقع متقدّم في تحديد مصير لبنان، وبالتالي فإن تثبيت موطئ قدم لها في لبنان من بوّابة الشمال سيجعلها مشاركة في رسم السياسة الداخلية.
أما عن هدف تركيا من التغلغل بالملف اللبناني، فتشير المصادر إلى أن لها مصلحة في “تخريب” الوضع الأمني، من أجل حجز موقع متقدّم لها على المتوسط. وتعمل تركيا أيضاً على إيجاد منافذ لها على منطقة شرقي المتوسط، لفرض مصالحها ولتأمين فرصتها في التنقيب والتي تعارضها دول المنطقة. فهي تستفيد من اعترافها بقبرص التركية وتطالب بحقوق لها في هذه الاكتشافات، وتتفق مع حكومة الوفاق الليبية على ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين، وهي ترى في لبنان موطئ قدم ممكناً لها في شرق المتوسط، ولذا كان هذا جزءاً أساسياً من مباحثات أوغلو في بيروت، والذي قدّم عرضاً ببناء خط مشترك تركي لبناني لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا، في محاولة لبناء خط متوسطي بديل للخط الآخر (إيست ميد)، تعبيراً عن رغبة تركيا لأن تكون لبنان شريكاً لها للدخول إلى اتفاقيات استخراج النفط.
ولهذا فإن مسارعة تركيا إلى إرسال نائب رئيس النظام التركي فؤاد أوقطاي إلى بيروت موفداً من أردوغان، برفقة وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو وعدد من المسؤولين الأتراك، أكدت الاهتمام التركي على أن تكون أنقرة لاعباً فاعلاً في المشهد اللبناني.
مما سبق يتضح أن سياسة تركيا تجاه لبنان لها أهداف واضحة ترتبط بالسياسة الإقليمية لتركيا وتوجهاتها الإستراتيجية، ولم تبدأ في تنفيذها مع ما شهده لبنان مؤخراً من انفجارات، لكنها تستثمر هذه اللحظة للإسراع بتنفيذ هذه الأهداف مع إضافة بعض الأهداف المرحلية الأخرى.
وتشهد مناطق الشمال اللبناني استثماراً تركياً ضخماً من بوّابة المساعدات الاجتماعية التي تُقدّمها أنقرة، حيث تستغل الفقر والجوع من أجل توزيع مساعدات معيشية عبر مكاتب استحدثتها في طرابلس وعكار. ولم تفوّت تركيا الفرصة الاقتصادية التي يمثلها خروج ميناء بيروت تماماً عن العمل، إذ تحدث أوقطاي عن دور ميناء مرسين كبديل من ميناء بيروت. وأكد أنّ “تركيا ستمضي مع لبنان حتى النهاية”، مشيراً إلى أنّ زيارته إلى لبنان تعد بمثابة “شيك مفتوح” لتقديم “شتى أنواع المساعدات لأبناء الشعب اللبناني الشقيق”.
ولا يبدو التدخل التركي في لبنان محصوراً في الشمال، حيث تشير مصادر إلى محاولة توسيعه باتجاه مدينة صيدا جنوبي لبنان عبر مساهمة أنقرة في تمويل بناء مستشفى متخصص في معالجة الحروق، غير أن هذه المحاولة لم تتوسّع كثيراً كما هي الحال بالنسبة لشمالي لبنان لأن التواصل الجغرافي مع مناطق الشمال أقرب وأسهل من الجنوب.
ويعدّ السياسيون اللبنانيون أن تركيا تسعى لاختراق واسع في لبنان من خلال مشروع رعاية الجمعيات الإسلامية والاهتمام بترميم الأبنية القديمة مع تركيز خاص على تلك التي تذكّر بالحقبة العثمانية.
على مدى الأيام الماضية، شهدت الأروقة السياسية في بيروت تداول معلومات تتمحور حول دخول تركيا على خط الملف اللبناني من بوّابة الأزمة الاقتصادية التي يرزح تحتها اللبنانيون، مستغلّةً الأوضاع المعيشية التي تتدهور بشكل متسارع نتيجة انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار.
وفي هذا السياق، أشارت بعض المعلومات إلى “تورّط” تركي في سلسلة أحداث حصلت في شمالي لبنان مؤخراً وتقديم الدعم لمجموعات تتلطّى بالمطالب المعيشية فضلاً عن تمويل بعض أعمال تخريب شهدها وسط بيروت التجاري. ويرى كثير من المراقبين أن النظام التركي يستغل الجمعيات الخيرية بهدف مسح الهوية العربية من خلال نشر الثقافة والفكر واللغة التركية، ويدللون على هذا الرأي بوجود مدارس في الشمال تم إنشاؤها بتمويل تركي تقوم بتدريس اللغة التركية، وتُقدّم منحاً لطلابها لإكمال دراستهم في تركيا، وهذا ما سمح لتركيا بأن يكوّن لها موطئ قدم في الشمال.
وتعتمد تركيا على عدد من الأدوات لتنفيذ سياستها التوسعية الناعمة في لبنان من خلال إنشاء المؤسسات الثقافية والخيرية والتعليمية، وذلك لتحقيق حلم إحياء “الإمبراطورية العثمانية” المزعومة، وتعدّ الوكالة التركية للتعاون والتنسيق (تيكا) آلية مهمة لتنفيذ سياسة تركيا، ولذلك أوكلت إليها مهمة الإشراف على توزيع المساعدات من خلال مكاتب استحدثتها في طرابلس وعكار والبقاع وصيدا، تصبّ خدماتها في نهاية الأمر لصالح الأجندة التركية.