دراساتصحيفة البعث

حرب المياه الباردة.. سخونة إلى حد الغليان

 إعداد: إبراهيم أحمد

ماذا لو دفع الظمأ بالعالم إلى حروب لا تبقي ولاتذر؟ إنه سؤال القرن الجديد. ألهذه الدرجة يمكن أن تحمل قضية المياه عوامل الصراع من أجل البقاء؟. من يرَ خارطة العالم اليوم يلحظ من دون عناء كم للثروات المائية من أثر حاسم في تشكيل أنظمة الأمن واستراتيجيات التنمية. ففي تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للبيئة أن أكثر من نصف العالم سيعيشون سنة 2032 في مناطق تعاني نقصاً كبيراً في الماء إذا تركت القرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم لقوى السوق. وهناك من الخبراء من بات على يقين بأنه إذا كان ثمة مجالاً بعد الحروب الإقليمية أو الدولية فقد تكون حروباً على المياه وبسببها، حتى أن الباحثة الأمريكية في مركز الدراسات الإستراتيجية الدولية جويس ستار لم تر بداً من الدعوة إلى ( عقلنة الماء) لأن الماء – برأيها – وليس النفط هي المادة سريعة الالتهاب.

منذ زمن غير بعيد راح الفكر الاستراتيجي الدولي يعطي مفهوم الأمن المائي اهتمامه الخاص، وأصبح هذا الأمن عاملاً مكوناً للسيادة الوطنية وللأمن القومي الشامل للأمم. ولعل انفجار النظام الدولي قبل بضع سنوات، وما ترتب عليه من تفكيك للأنظمة الإقليمية وبخاصة منطقة الشرق الأوسط، يكشف صراحة عما يحتله الأمن المائي من أهمية حيوية في إعادة ترتيب الأولويات الإستراتيجية. وإذا كان تاريخ العالم يكتب بالحروب، فلربما شكّلت الحاجة المتزايدة للمياه العذبة عنواناً لحروب عالمية في المستقبل.

يُسميّ البعض الماء ” الذهب الأزرق”، ويتناقص احتياطي ذلك الذهب باطراد، ما يجعل منه مصدراً للتوتر بين الدول، فقد تحدث خبراء إستراتيجيون عن أن الحرب القادمة في الشرق الأوسط ، ستنشب حول موارد المياه.

أزمة المياه في الوطن العربي

إن مسألة المياه لا تقتصر في أهميتها على المستوى المحلي أو العربي، وإنما تتعدى ذلك لتحظى بأهمية إقليمية وعالمية، وتشير الكثير من الدراسات والأبحاث إلى أن الصراع القادم في منطقة الشرق الأوسط وكثير من المناطق الأخرى سيكون من أجل السيطرة على مصادر المياه الطبيعية، حتى باتت النزاعات على مصادر المياه فتيلاً يهدد بتفجير صراعات محلية وإقليمية. وبالفعل تأخذ هذه المسألة في المنطقة بعداً استراتيجياً حقيقياً، وخاصة في الحقل السياسي والأمني والاقتصادي، فالماء هو الحياة والمعركة من أجل الماء هي معركة بقاء، والمياه كانت ومازالت مصدر أطماع ونزاعات، واستخدمت وسيلة ضغط سياسية واقتصادية.

إن الأخطار والتحديات التي تهدد وتواجه الأمن المائي العربي باتت تفرض على الحكومات العربية متعاونة الوقوف بوجهها والعمل على الحد من منعكساتها وآثارها السلبية، وفي هذا الإطار يمكن القول: إن الدول العربية تنبهت مبكراً لهذه المخاطر والأطماع الإقليمية والدولية بالمياه في المنطقة العربية، ومؤشرات ذلك التنبه برزت واضحة منذ مؤتمر القمة العربي الأول عام 1964 وحتى الآن عدا عن الندوات والمؤتمرات والقمم المصغرة التي ناقشت وعالجت مشكلة المياه للتوصل إلى حلول وصيغ تحفظ الحق العربي في المياه الدولية وتحمي المياه العربية من الاعتداءات والأطماع الأجنبية، ولعل من نافلة القول: إن الأمن المائي لا يقل أهمية عن الأمنين العسكري والاقتصادي، إذ إن الماء هو سر الحياة وعليه تقوم صناعات عدة، كما أنه يعد العامل الأساسي للإنتاج النباتي بأنواعه.

ولأهمية الماء هذه، قامت عدة حروب قديماً، ولا تزال كذلك إلى وقتنا الحالي، واللافت للنظر أن الوطن العربي على الرغم من تمتعه بثروات كبرى في باطنه وعلى الرغم من الخيرات الوفيرة في جوانب عدة، فإنه يعاني شحاً كبيراً في الموارد المائية، ومن أبرز الأسباب على ذلك أن الأنهار العربية الكبرى، (النيل والفرات ودجلة)، تنبع من خارج الوطن العربي، أي ما يمثل نحو 75 في المئة من الموارد المتوافرة، وهذا يعطي المجال لدول المنبع للتحكم في حصص الدول العربية من الماء، وأحياناً تلجأ تلك الدول لاستثمار أكبر قدر من المياه لمصلحتها، كما فعلت تركيا ببناء سد أتاتورك على نهر الفرات، وكما تفعل إثيوبيا حالياً ببناء سد النهضة وملء خزانه.

المعاناة العربية من المياه لا تتوقف عند هذا الحد، بل إن البنك الدولي صنّف الدول العربية بأنها تقع ضمن المناطق الجافة أو شبه الجافة، كما تقع خمس عشرة دولة عربية تحت خط الفقر المائي، إلى جانب أن المياه الجوفية العربية تكاد تكون نادرة أو شبه معدومة في ظل انفجار سكاني كبير وزيادة عدد المواليد، وهو ما يصب في ضرورة إيجاد حلول فاعلة للأزمة المائية، لاسيما أن هنالك دولاً تدعو إلى تسعير المياه الدولية. وللأسف تبنى البنك الدولي ومنظمة الأغذية والزراعة الدولية هذا المقترح، وهو ما ينذر بأن مشكلة المياه قد لا تبقى ضمن إطار التفاهمات في حال تم اعتماد ذلك بالفعل، وقد يتطور الوضع إلى مواجهات عسكرية.

على الرغم من أن الأمم المتحدة أوجدت تفاهمات لأمور عدة، إلا أنها إلى اليوم لم توجد حلولاً لمعضلة تقاسم المياه، وظلت تلك القضية ضمن التفاهمات الإقليمية من دون أن يكون هنالك أي توزيع عادل لها، وتعاني الدول العربية من تعنت دول المنبع وسعيها بين الحين والآخر لزيادة حصصها على حساب الدول العربية، كما يحدث اليوم في قضية سد النهضة الإثيوبي الذي فشلت حتى الآن محاولات الوصول إلى تفاهم حول تقاسم مياه النيل بين الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا).

سد النهضة

هو سد إثيوبي يقع على النيل الأزرق بولاية بنيشنقول- قماز بالقرب من الحدود الإثيوبية-السودانية، على مسافة تتراوح بين 20 و40 كم . وهو أكبر سد كهرومائي في القارة الإفريقية، والعاشر عالمياً في قائمة أكبر السدود إنتاجاً للكهرباء. تقدر تكلفة الإنجاز بـ 4.7 مليار دولار أمريكي، ويوجد قلق لدى الخبراء المصريين بخصوص تأثيره على تدفق مياهه.

إن ما تقوم به السلطات الإثيوبية يعد استفزازاً غير محسوب العواقب والمخاطر، فهنالك لعب بالماء والأمن المائي. كانت الدول الثلاث (مصر والسودان وإثيوبيا) قد توصلت سابقاً إلى اتفاق مبدئي على أن عملية ملء السد ينبغي أن تتم على مراحل في أثناء موسم الأمطار، ولكن إثيوبيا نكثت بالاتفاق، خصوصاً أن السعة التخزينية تصل إلى 74 مليار متر مكعب، وهي مساوية تقريباً لحصتي مصر والسودان السنوية من مياه النيل. ويؤكد خبراء “أن تنفيذ إثيوبيا قرارها ببدء ملء السد، بغض النظر عن الوصول إلى اتفاق مع مصر والسودان، يمثل إعلان حرب من وجهة نظر القاهرة”.

وقّدمت مصر إلى مجلس الأمن طلباً تدعو فيه المجلس إلى التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة الدول الثلاث، مصر وإثيوبيا والسودان، التفاوض بحسن نية، تنفيذاً لالتزاماتها وفق قواعد القانون الدولي من أجل التوصل إلى حل عادل ومتوازن لقضية سد النهضة، حسب ما جاء في بيان للخارجية المصرية. وأضاف البيان أن مصر اتخذت هذا القرار في ضوء “تعثر المفاوضات التي جرت مؤخراً حول سد النهضة، نتيجة للمواقف الإثيوبية غير الإيجابية” و”عدم توفر الإرادة السياسية لدى إثيوبيا وإصرارها على المضي في ملء سد النهضة بشكل أحادي”.

كي تكسب مصر هذه المعركة، عليها أن تجيب عن الأسئلة الصعبة التي ستحسم الإجابة عنها ما يمكن أن تتجه إليه هذه المعركة من مكاسب أو خسائر وفي مقدمتها: كيف تجرأت إثيوبيا على مصر إلى هذا الحد؟ من يساندها؟ وما هي المصالح التي تتخفى وراء تلك المساندة؟ وكيف يمكن تفكيك المواقف الدولية والإقليمية الداعمة للأطماع الإثيوبية في ظل وجود دور إسرائيلي مشبوه وضغوط صهيونية؟.