دلالات رسم الوجوه عند الأطفال
وجه طفلة ممتلئ، بعيون واسعة وشعر طويل فاحم، رُسمت بألوان مليئة بالفرح. حين تم سؤالها عن اللوحة: هل هذه أنتِ؟ ردت بسرعة مستنكرة: لا.
هي طفلة في الخامسة من العمر، لم تكن تدرك وهي ترسم لوحتها تلك أن هذه الصورة هي تعبير عن رغباتها الخاصة وماتدركه عن جسمها، عن صورتها هي. لم تكن تعرف أن ثمة ترابطاًو ثيقاً بين قسمات الوجه الذي رسمته ووجهها، لكن بالنسبة لها لم تكن تعني تفسيراتنا للوحتها شيئاً، أما بالنسبة لنا ككبار لطالما كانت رسوم الوجوه والشخصيات عند الأطفال تحوي على دلالات رمزية كبيرة، فالطفل الأكثر تلاؤماً مع بيئته سيرسم شخصاً متناسق التفاصيل، وحين يشعر بالنقص حيال الآخرين فسنجده يرسم شخصاً بأبعادٍ صغيرةٍ، أو قد يضعه في زاويةٍ صغيرةٍ بأسفل الورقة، وإذا تكرر هذا الشخص الصغير في لوحاته فهذا سيكون بالنسبة لنا بمثابة التأكيد على أن طفلنا يعاني الخجل والكبت والقلق وخلف رموزه تلك رغبة بالاختفاء عن الأنظار بحيث لا يشاهده أحد.
وقد نجد أطفالاً يعبرون عن هذه الظاهرة من عدم الثقة والشعور بانعدام الأمان من خلال غياب الأذرع والأيدي في أشخاصهم لأنها الأدوات التي تساعد في التأثير على الوسط المحيط بهم. وبالعكس تماماً حين يرسم الطفل شخصاً بنسبٍ كبيرةٍ ضخمة، فلابد أن يكون متمركزاً حول ذاته، معتداً بنفسه، متصلباً بأحكامه.
أما عن علاقة الطفل بمحيطه من أقرانه من الأطفال فإن أكثر مايعكس ذلك هو موضوع اللعب حيث نكتشف أين يضع الطفل نفسه في اللعبة وسنعرف علاقته بالأطفال الذين يشاركونه اللعبة/ قائد، تابع، منعزل/ فإذا وضع نفسه بمركز الدائرة فإنه واثق بنفسه، أما إن وضع نفسه في محيط الدائرة فإن هذا يعكس اندماجه بمجتمعه الطفولي، أما لو كان خارج الدائرة تماماً فلا بد أن يكون هذا انعكاساً لمشاكله الاجتماعية والتي يجب أن نأخذها بعين الاعتبار، لأن كل لوحة يرسمها طفلنا وكل تموضع له في مساحتها ستعكس لنا المسار الذي مر فيه خلال رحلته وتجاربه بالتكيف مع من حوله مروراً بعلاقته بأمه وأخواته ثم أقرانه، أول نقاشاته، أول ظواهر الرقابة التربوية على سلوكه حيث يضطر للتصرف مع الآخرين بلغتهم هم أو كما تقتضيه المتطلبات الاجتماعية من حوله.
ودائماً الإمعان في الوجه الإنساني الذي يرسمه طفلنا سيحدثنا عن تطور نموه لأن التقدم نحو عدد كبير من تفاصيل الوجه لايحدث دائماً، بل غالباً مايكون تدريجياً، يبدأ من قسمات الوجه الأكثر أهمية بالنسبة إليه /كالعينين، الفم، الأنف، الأذنين…الخ/ لينتقل إلى تفاصيل أخرى أقل أهمية / كالأهداب أو قزحية العين وغيرهما/. والطفل غالباً يميل إلى استنزاف الجزء الذي يرسمه قبل الاهتمام بأجزاء أخرى، فلا فائدة ترجى من دفعه إلى مراحل جديدة طالما لم يقرر هو ذلك، وحين يكتفي من الأجزاء التي تكوّن ملامح الوجه البشري الأمامي، سنجده ينتقل إلى الرسم الجانبي للوجه. ولرسم الوجوه بحالة السكون أو الحركة دلالات هامة فمن يرسم الوجه في حالة الحركة غالباً ما يكون منفتحاً ونشيطاً ويمتلك ذكاءً جيداً.
وقد تتمثل الحركة في الجسد البشري في وضعية الذراع الذي يبدو في سن الخامسة أو السادسة مشدوداً وممتداً لينثني عند المرفق شيئاً فشيئاً، وإذا أثارت الحركة اهتمام طفلنا فسيتجه نحو الأرجل ليستدير الشخص جانبياً شيئاً فشيئاً، ليصبح الطفل أكثر انتباهاً للواقع ومع ذلك لايتحول إلى الرسم الجانبي من الرأس بل من الأذرع لتستدير الأجزاء الأخرى شيئاً فشيئاً، ليبقى الرأس هو الأخير في الاستدارة الجانبية. وخلال هذه المرحلة الطويلة في الانتقال من الرسم مواجهة إلى الرسم الجانبي الصحيح، سنجد أشكالاً لظواهر طريفة غير معقولة، فبعض الأجزاء تغير مكانها دون أن تتلقى التعديلات الضرورية لمظهرها الجديد، بينما تبقى بعض الأجزاء في أمكنتها.
هذه الظاهرة ستؤدي إلى وجود عدم توازن طريف ومسل في رسوم الوجوه عند أطفالنا، حيث قد تظهر فكرة الرسم الجانبي برسم الأنف فقط بشكل جانبي بينما بقية الأجزاء كالفم والعينين يبقيان مواجهتان، وقد تغيب إحدى العينين ويتغير مكان العين الأخرى إلى مركز الوجه، وقد يحذف الطفل نصف الدائرة التي تكون الوجه والتي تعتبر أساساً للانطلاق، وبالتالي، فمفهوم الرسم الجانبي يتشكل في ذهن الطفل عن طريق تغيير الأماكن أو حذف بعض الأجزاء. وهنا لابد من التنويه إلى أن لكل شيء شكلاً نموذجياً عند الأطفال، فالوضع النموذجي للأرجل مثلاً هو دوماً الوضع الجانبي وليس الوضع المواجه، وحين يرسم جسداً بوضعية مواجهة سنجد الأرجل مرسومة جانبياً.
وبهذه الطريقة الخاصة في رسوم الأطفال نجد الاختلاف الجميل بين الواقع وما يرسمه، وهذا لاشك ميزة من ميزات فنون الأطفال وليس عيباً، والمشرف العارف لن يلوّح ولو من بعيد إلى أن مايرسمه الطفل خطأ، بل علينا ككبار أن نحافظ على بقائه وظهوره في لوحاتهم حتى ينمو الطفل أكثر ليصل إلى مرحلة واقعية حيث تؤهله إمكاناته وقدراته بالوصول إليها، وبكل هذه المراحل سيكون إبداعنا في الحوار معه وتشجيعه ودعمه هو الطريق لجعله أقدر على إيصال رسالته وتمكينه من التواصل المميز معنا عبر لوحاته المختلفة والجميلة.
هيام سلمان