الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

ذاكرة لا تموت

سلوى عباس

كتبت له: كلما كنت تقول لي اشتقت كتاباتك كنت أؤنب نفسي كيف نسيت أوراقي وتركت الحبر يجف دون سحر، وكم مرة سألت لماذا كل هذا الجفاء؟ وهذا الهروب إلى متى سيظل يطارد أحلامي الزرقاء.. كنت أبحث دائماً في أعماقي عن تلك الزاوية الغالية من أيام طفولتي، وأحاول أبداً أن أحافظ عليها ندية كما كانت أول التفتح تغازل أصص الورد في دار فسيحة في مدينتي التي احتضنت طفولتي ويفاعتي، وكان صوتك، الذي كلما سمعته ازددت إيماناً أنه لا يزال في أعماقي متسع للأحلام والعشق، كيف لا، وأنا لازلت أرى نفسي تلك الطفلة البهية الدلال، تسحرني بغنجها وبصوتها، وبسجادة الأحلام التي تسحبها رويداً رويداً لتسافر فيها إلى مساحات من الفرح، وأي فرح.. تحدثني عنه كابنة لم تعرف سن العشرين بعد، ندية كقطر الندى في تموز وقت الفجر، فواحة كشتلة حبق زرعتها أمها وبدأت تغار إذ تأسر اهتمامها فتقطف منها وريقات تزجها بين ثيابها لتقول: أمي هنا تدفأ روحي وتتجدد دوماً طفولتي.

****

معك كنت أعود لأحلامي الزرقاء، وبحديثي الصباحي معك أشد لحاف الوقت لأوقفه عند أقدامي لأخطو الخطوة الأولى يقتلني الخوف أن يحين وقت تغادرني فيه، فأتأمل عينيك وأنت تخاطبني: كم أتمنى أن تغسلي أحزانك وتكوني أكثر إشراقاً وأكثر دهشة، ولو كنا أكثر حزناً، فهذا ما يميزنا ويدفعنا للطيران، وتأكدي أنني لن أتعب من أن أطرق نوافذك لأذكرك أن الذاكرة لا تموت، وأننا نخبئ في أعماقنا مارد قوتنا فأزيحي عن روحك هذا الوهن، ففي الوقت الذي ينتظرك الآخرون أن تتعثري ويضحكون، أن تقعي ويهللون، أن يثيرون غضبك ليتصيدوا عثراتك، عليك أن تتحرري من مخاوف السقوط.. أن تتحرري من الغضب وتتأني وتكوني أكثر هدوءاً.. كوني كمن يصقل الماس ليصنع تحفته بتأن وهدوء وصفاء يعمل حتى لا يفقد غراماً لا يمكن ترميمه.. افتحي نوافذ الأمل وانطلقي، دربي نفسك ألا تتسرعي بحكمك وانفعالك وأن تعودي لدربك الذي تحبين.. لتكن حياتنا كمن سيموت غداً لا يتركها إلا وعبق روحه فيها، لا تكوني كبعض من ملّ الحياة فطلب النهاية والنهاية تتفرج عليه، انفض من حوله الأحبة ولم يبق إلا الأعداء يتسلون بنزيفه.. اسمحي لنفسك أن تطير وتحرري من الدوران في مدار الآخرين، وإن جاء وقت وغادرت اتركي عطرك يفوح في المكان.

****

أنوي دائما أن أضمك إلى قلبي فأجد ما يمسك بي، يطوّح ذراعي خلف ظهري، أو يزرع بيننا سوراً من الناس أو العيون.. أحث الخطو إليك غير آبه بشيء.. أرسم في الطريق أحلاماً من ورد وتلالُ فرحٍ كي أغمرك بها حين يتسنى وجهك الجميل مبتسماً، أو غارقاً بين أوراق بيضاء، أو متكئاً على همسات سماعة الهاتف.. كلما اقتربت في طريقي منك زال الرماد قليلا وساحت لزوجة الساعات.. وبدا لي وكأن الهواء عاد نضراً والسماء أكثر زرقة، والقلب استكان للصفاء.. وهدأت الروح على وجد اشتياقك، ثم صفقت بجناحها الأبيض وسبقتني.. كم أتمنى أن يسرقني الوقت فألحظ وكأني أفاجأ بالشمس أخذت مني هموم الانتظار، وأهلّت لحظة انطلاقي إليك كتائه يبحث عن ضالته فيبدو أهوجاً في خطوه متسرعاً في حركاته.. كمن أخبروه أنه ربح الجائزة الكبرى.. وكم أحس أني حين ربحتك تضاءلت إزاءك كل الجوائز.. وخبا بريقها الآسر حين التمع ضياؤك الرائع، لم تعد تعني أكثر من رزم من ورق الجرائد الصفراء..