ثقافةصحيفة البعث

“بورتريه”.. دراما شابة تقول كلمتها

شابٌ أثناء علاجه في المستشفى، يقع نظره على فتاة تُعالجُ أيضاً من محاولة فاشلة للانتحار، وتبدأ بينهما قصة حب سيقف في طريقها عداء قديم متجدّد بين أبيه وأبيها.

ما سبق هو القصة الرئيسية في المسلسل الذي كتبه “تليد الخطيب” وأخرجه “باسم السلكا”، النص يتعامل مع زمنين، حديث مع جيل الشباب، وقديم مع سبب العداء بين الأبوين، وهذا ما يتقنه المخرج الموهوب بالعثور على مفاتيح إخراجية تجعل الانتقال بينهما سلساً، يضاف إلى مزايا الإخراج المتميّز لهذا العمل، اختيار زوايا التصوير التي تجعل تفاصيل المشهد متضمنة في الكادر بطريقة تخدم الانفعال، وهو يقوم بمغامرات جريئة ولكن ناجحة ومؤاتية للمشهد، وتخدم الشعور العام والأجواء، فيستعمل أحياناً وبشكل ملائم الكاميرا المحمولة باليد، في بعض المشاهد التي تحوي على اضطراب، مثل المشهد الافتتاحي للقذيفة التي سقطت، واللافت للاهتمام أيضاً هو الاعتماد على ممثلين غير نجوم في أدوار بطولة. الممثلان الشابان يجيدان دورهما، وهذا يُحسب لصُنّاع العمل في تقديمهم لوجوه جديدة، تحرك المياه الراكدة لنموذج الوجوه المكرسة الثابتة، التي صار تكرارها يبعث على السأم في الكثير من الأعمال المحلية والعربية، حيث قد نرى بعضهم في عملين أو ثلاثة ضمن الموسم نفسه!.

يُحسب للنص تعامله مع فكرة جيدة، صحيح أنه لا يزال من المبكر إطلاق حكم نقدي وافٍ عليه، لكن طبيعة القصة وجودة معالجة العلاقة بين الزمنين، مع وضوح الشخصيات التي تبدو واقعية حقيقية، إضافة للفهم الدقيق لطبيعة جيليّ الآباء والأبناء، وتصاعد الحدث الدرامي، كل ذلك يشي بأننا أمام نص محلي مميز ومشغول بعناية.

مقولة القصة قد تكون “الآباء يأكلون العنب.. والأبناء يضرسون”، ولكنها ليست المقولة الرئيسية للعمل، بسبب أنها تقترب من البديهة العقلية، لكن المقولة الأكثر بروزاً حتى الآن هي “الحب والمستقبل في مواجهة الأحقاد والماضي”، ما يدفع لاعتماد المقولة الثانية، هو أن الماضي ماثل وحاضر للمتفرج، يظهر في بداية التأزم ونقطة ولادة الشر، في حين يظهر الآن بداية نشوء الحب وتطوره، أي أن قصة الحب هي مستقبل ذلك العداء الدفين في حال افترضنا أنه في الزمن الحاضر كما يظهر على الشاشة، وإذا افترضنا أن الزمن الحاضر هو قصة الحب، فإن الشر في الماضي، وفي الحالتين الكاتب يجعل المشاعر الإنسانية الصافية هي الجديد الذي سوف يدحض القديم المتخم بالأحقاد، ولكن الصراع سوف يتجدّد ويتطوّر بسبب هذا الحب، وسوف يغدو هو الحبكة الجانبية، ثم العقبة أمام العاشقين في تحقيق حبهما، ولهذا قد يصح التنبؤ بأن العمل سوف ينجح في المحافظة على تصاعد التشويق، الذي يتنقل برشاقة بين عالمين، لحظات الحب، ولحظات الصراع من أجل هذا الحب.

التعامل مع عوالم الرومانسية في ظل العنف والأكشن والصراع، مع العناصر المحلية واضحة الهوية، يعطي العمل طابعاً محلياً مدنياً تحتاج إليه الدراما المحلية، وهذا ما يجعل الجمهور أمام فرصة تلقي حكاية واعدة وتنطوي على نفسٍ شبابي لا تخطئه العين، الأمر الذي يضع المخرج الشاب أمام أول تحدٍ إخراجي فعلي، فتجربته السابقة مع “العميد”، كانت جيدة على العموم، لكنها شأنها شأن “الهيبة” –شارك فيه ككاتب وتعاون فني- لا تصلح للحكم على تجربته مع الدراما، لأن هوية العمل كانت ضبابية في السابق، أما الآن فإن الحكم سوف يذهب للإجابة عن السؤال: كيف وإلى أي مدى سينجح “السلكا” في تقديم مسلسل سوري ينتمي إلى دراما أصبحت واضحة الهوية والمواصفات؟.

النمط الإخراجي واضح في الحلقات الأولى، هناك ما هو مشترك مع أعمال المخرج السابقة، ولكن “بورتريه” يتفرد بإضافات جديدة، تُبشّر بأن مخرجنا الشاب، الذي يمتلك دراية كبيرة بالأعمال السورية، يشتغل على أدواته ويطوّرها، ليس باستعجال ومغامرة غير مضمونين، ولكن بحذر ودقة وحرص على مفاتيح النجاح. من تلك المفاتيح أنه يراعي في اختيار اللقطات المونتاج لاحقاً، وهو سواء أكان يشرف على المونتاج أم يترك لمشرف المونتاج حرية كبيرة في عمله، بجميع الأحوال، هناك كاميرا من الواضح أنها لا تترك ثغرة أو خللاً للمونتاج كي يحلّه، بل تراعي أثناء التصوير ألا تترك أية مشكلة أو ثغرة بحاجة إلى حلّ في مرحلة ما بعد التصوير.

هناك مأخذ واحد على العمل، أو لنقل إنها ثغرة، وهي عملية “الكاستينغ”، يحدث ذلك في انتقاء الممثلة “نوار يوسف” للدور، لا خلاف على موهبتها وجودة أدائها، والتي ظهرت في عدة أعمال تلفزيونية ومسرحية وسينمائية، المسألة هنا ليست مرتبطة بالموهبة، ولكن في الاقتناع أنها فعلاً تناسب أن تكون طالبة في المرحلة الثانوية كما ظهرت!.

يتكرّر الأمر أيضاً مع الممثل “أكثم حمادة”، دوره مهم، ومفصلي، كنا نتمنى على المخرج أن يحرص أكثر على انتقاء ممثل يلائم الدور الذي يقدّمه، على مستويي العمر والأداء، فهناك شبه تطابق في الملامح بين الزمنين رغم اتساع الفارق بينهما، الشيب فقط لا يكفي للتعبير عن الفارق الزمني، كما أن أداء مشاهد التأثر، الأسى، الغضب، الرومانس، وجميع المشاعر الأخرى على العموم، كان يظهر فيها إما أنه يتعرّض للحظات صمت انفعالي غير مبررة، أو يبالغ في الأداء للتغطية عليها، في الحالتين لم يكن مقنعاً، الإلقاء الصوتي لديه أيضاً يبدو مصطنعاً، يظهر ذلك من الدقائق الأولى، مثل المشهد الذي يخرج فيه وهو يُغلق أزرار قميصه، عندما تضبطه زوجته مع عشيقته، زمن طويل يمرّ وهو ينظر إلى الأسفل بتأثر، وعندما يتكلم يتحرك دون مبرّر، وغيرها من ثغرات أخرى على مستوى الأداء الذي يقدمه، لكن مشكلة كهذه قد تتقلّص في أعمال قادمة، مع تطور مقدرة المخرج على رفض التدخل في انتقاء الممثلين وقول لا لأي ممثل قد يُفرض عليه لأسباب غير فنية.

تمّام علي بركات