شهامة
عبد الكريم النّاعم
أبدأ بمعنى الشّهم لغةً، فهو: “الذكيّ الفؤاد- السيّد النّافذ الحُكم”، وأنا أرى ثمّة تقصيرا في تعريف “المنجد”، فالشهم الذي أعنيه هو الكريم، المضحّي، الذي يؤثر الآخرين والمصلحة العامة على مصلحة نفسه، لن أذهب إلى بطون كتب التاريخ المليئة بأفعال من كانوا في الشهامة على درجة عالية، سأذهب إلى تاريخنا القريب.
منذ منتصف سبعينات القرن الماضي امتلأت ساحات الوطن العربي بأشرطة الكاسيت التي تحمل صوت وألحان الشيخ إمام، وكلمات الشاعر الشهم أحمد فؤاد نجم، ومعظمها كان ناقداً للأوضاع، ومحرِّضا ضد الظلم، ومُطالباً بالثورة على الرداءات، ولقد افترق هذا الثنائي فيما بعد، لأسباب لست بصددها، وظلّ أحمد فؤاد نجم يرفع صوته عالياً بقصائده المكتوبة بلهجة مصر العاميّة، واستطاع أن يحقّق شهرة واسعة، يغبطه عليها المحبّون، ويحسده عليها الحاسدون، وقد سُجن أكثر من مرّة بسبب قصائده.
أحمد فؤاد نجم أُبلغ عن ضرورة مراجعة أحد البنوك، ولا شكّ أنّه استغرب، فما هي علاقة أمثاله من “الغلابة” بالبنوك؟! وذهب فوجد أنّ جائزة مُنحت له من هيئة من “النّروج”- هذا إن لم تخنّي الذاكرة- وقيمتها مليون يورو وبضعة آلاف، فكان أوّل ما فعله أنّه تبرّع بمليون لصالح مشفى مختص بالأطفال المرضى بالسرطان، وأخذ “الفكّة”، وراح مسرورا يوزّع لهذا الفقير، ولذاك المحتاج، ولهذا البائع، ولم يبق في جيبه إلاّ خمسون جنيها مصريّاً فاستأجر سيارة لتوصله إلى بيته، وحين وصل، وكان المشوار لا يساوي أكثر من خمسة جنيهات.. ناول السائق خمسين جنيها، فاستغرب السائق، وبدت على وجهه الحيْرة، فقال له: “خدْهمْ ياواد دول رزقْ العيال، يا الله توكّل على الله”.
هل تكفي مفردة “شهامة” لتُعلَّق على صدر ذلك الإنسان الرائع؟!
الآن أنتقل إلى مساحة أخرى هي شهامة الذين دفعوا أرواحهم وبذلوها لحفظ أمن هذا البلد، ولحفظ وحدته، ولردّ العدوان عنه، ولكي لا ننسى أطلب أن نتذكّر تلك الأيام الصعبة التي كان فيها الدواعش والنّواهش والمتطرّفون مذهبيّاً، على مسافة قريبة من بيوتنا، يحملون السكاكين والسواطير والأسلحة التي زوّدهم بها حلفاء “إسرائيل”، رافعين شعارات مذهبيّة، وقد ارتكبوا ما ارتكبوا من مجازر وحشية، أذكّر بهذا لأنّ زمن عشر سنوات لا يُنسي ما مرّ بنا من رعب، وأذكّر لأنّ ثمّة جيلاً جديداً ينشأ يُفترَض فيه أن يحمل تلك الذّاكرة حتى لا يُتاح لتلك الجيوش المتصهينة أن تتسلّل من الخروق الكثيرة التي أصابت خيمة هذه البلاد.
الشهامة وحدها هي التي وقفت في وجه ذلك المدّ العثماني القادم من ظلامات التاريخ، شهامة الشجعان الذين واجهوا في معظم الأحيان بأجسادهم العارية ذلك الطوفان الناري، شهامة الجنود والضباط الذين قاتلوا ببسالة نادرة، فصمدوا في أوقات كانت معظم المؤشّرات تقول إنّ البلد سينهار، فقلبوا بصبرهم وثباتهم المعادلة، وغيّروا اتجاه الريح، منهم مَن قضى، ومنهم من ترك عائلة وأطفالاً بغير مُعيل، ومنهم مَن عوّقته الحرب فبترت عضواً من أعضائه فصار من القَعَدة مُجبَراً، ومنهم.. ومنهم.. ولن أطيل التعداد فأنتم تعرفونهم.
الآن أسأل ماذا فعل الذين أثروا في ظلّ هذا الخراب، وصاروا من أصحاب العقارات والسيارات والعلاقات التي لانعرف إلى أين تستطيع الوصول.. ماذا فعل هؤلاء لردّ جميل هذا البلد الممثَّل بمن ضحّى؟! ماذا ستفعلون بكلّ الأموال التي شفطتموها، وهي كثيرة جداً تستعصي على العدّ؟! هل كل انتمائكم لسوريّة أنّكم أصبحتم تُفتَح لكم الأبواب التي لا تُفتَح إلاّ لأمثالكم، وهل كلّ انتمائكم أنّ ثمّة مَن يسندكم، ويحميكم؟!
يا سادة، إنّ كنتم “سادة” أقول لكم، إنّ ما فعلتموه يفعل مثله رجال العصابات، وتجار المخدّرات في العالم، وهذا انتماء للمال، وللذّات، وليس للوطن، إنّ الانتماء للوطن يعني أن تساعدوا المحتاجين، وأن تبحثوا عن الصّيَغ والمشاريع التي تشغّل الناس، وثمة الكثير الكثير ممّا يمكن أن يُقال، تُرى هل تغريكم “الشهامة” في شيء؟!.
رحم الله أحمد فؤاد نجم، ورحم الله حاتم الطّائيّ القائل لزوجته:
أَماوِيَّ إنّ الذِّكرَ خيرٌ من الغنى ويبقى من المرءِ الأحاديثُ والذِّكْرُ
aaalnaem@gmail.com