“حكاية العربي الأخير”.. استشراف متشائم لمستقبل محتمل
الكثيرون ممن قرؤوا رواية الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل الموسومة بـ”١٩٨٤” يجهلون عنوانها الأول الذي وضعه المؤلف قبل أن يقترح الناشر تغييره وهو “آخر رجل أوروبي”. العنوان الذي فضّله الروائي الجزائري واسيني الأعرج عتبة لروايته الأخيرة الصادرة عن دار الآداب “حكاية العربي الأخير ٢٠٨٤” التي يستلهم فكرتها من حكاية أورويل، لكنه يقفز في استشراف المستقبل أكثر من خمسين عاماً زيادة عن الأخير الذي كتب روايته عام ١٩٤٨ مفترضاً حال أوروبا بعد حوالي خمسين عاماً.
في “حكاية العربي الأخير” يتنبّأ الأعرج بما ستؤول إليه أحوال العالم بين عامي ٢٠٨٣ و٢٠٨٤، وخاصة المنطقة العربية التي هي مسرح أحداث روايته، حيث يرسم مشاهد شديدة البؤس والقتامة لحال الإنسان العربي في هذا الزمن الافتراضي، مستنداً إلى قراءاته المتعاقبة لأحداث تاريخية تبدأ من مرحلة اغتصاب فلسطين وما تلاها من تشرذم عربي، وصولاً إلى أحداث ما سُمّي بـ “الربيع العربي” ودخول المنطقة مرحلة مفصلية مبهمة المعالم والرؤى ومجهولة المصير.
في الرواية يقسم الكاتب العالم إلى تحالفات وقوى متصارعة يشير إليها بأسماء ورموز خاصة مثل “أميروبا” للدلالة إلى تحالف أمريكا وأوروبا و”إسرائيل”، وازاريا للإشارة إلى “إسرائيل”، و”أرابيا” للعرب. ويسمّي التحالف الروسي الإيراني الصيني “ايروشيانا” وغيرها. وينطلق في قراءته المستقبلية من الدور الافتراضي الذي تلعبه قلعة أميروبا كقاعدة متقدمة لهذا التحالف في صحراء الربع الخالي كمنطقة جغرافية متوسطة تشرف على حقول النفط ومسارب النقل والإمداد. وعلى باب هذه القلعة الكبيرة يعلق شعار “العربي الجيد هو العربي الميت” الذي ابتدعته منظمة “جوش إيمونيم” الصهيونية في أربعينيات القرن الماضي، واقتبسته عن شعار “الهندي الجيد هو الهندي الميت” الذي أطلقه الجنرال فيليب شيريدان (١٨٣١-١٨٨٨) قائد حملات الإبادة ضد الهنود الحمر في القارة الأمريكية، ليلخص فيه الروائي مجمل فكرته. دواعي ومبررات وجود التحالف، العلنية، في القلعة هو الحرب ضد “تنظيم الدولة” كما يسميه الكاتب، هذا التنظيم الدموي الذي يسيطر على معظم مساحات الأرض العربية ويمتلك تقنيات كبيرة وأذرعه تطال كل مكان، وبفضله تحوّل ما تبقى من عرب إلى قبائل متحاربة ومتصارعة على الماء والكلأ، بعد تخريب السدود وندرة الإنتاج الزراعي، حتى اللغة العربية تصبح خارج التداول في المحافل والمنظمات الدولية التي باتت حكراً على لغة “أورو لينغوا” وهي مزيج من لغات أوروبية بدأت تموت والانجليزية الأمريكية وبعض المفردات اللاتينية.
تتمحور أحداث الرواية حول آدم غريب عالم الذرة الأمريكي من أصول عربية وصاحب مشروع قنبلة الجيب “بوكت بومب” النووية الذي يرشح عنه إلى جائزة نوبل في الفيزياء، وهي قنبلة الغاية منها القضاء على تنظيم الدولة دون إحداث تدمير شامل يقتل الأبرياء، كما حدث في المدينتين اليابانيتين هيروشيما وناغازاكي. يتعرّض آدم لمحاولة اغتيال في مطار رواسي الفرنسي يقوم بها “تنظيم الدولة” لكن تدخل رجال مخابرات أميروبا ينقذه وينقله إلى قلعة أميروبا بحجة حمايته من خطر التنظيم الذي يقتل العلماء: “نبهتك بمخاطر التنظيم وجهازه الخاص باختطاف الناس المهمين.. قبلك اختطفوا أكبر فنان في الآثار في آرابيا وطلبوا فدية. وعندما لم يستجب لهم، قتلوه بأن علقوا جثته على قوس الملك الروماني في مدخل المدينة القديمة”، في إشارة إلى عالم الآثار السوري خالد الأسعد. وفي القلعة يستكمل آدم العمل على مشروعه بمساعدة علماء أمريكيين من أصول مختلفة كانوا معه في مختبرات بنسلفانيا الأمريكية، لكنه هناك يعامل هو تحديداً معاملة سجناء غوانتانامو من قبل قائد القلعة الجنرال العنصري ليتل بروز بسبب أصوله العربية.
في ظل الصراع بين تحالف الفيدراليات يتحوّل الإنسان العربي إلى كائن مهدّد بالزوال ترعى شؤونه منظمات دولية متخصّصة بحماية الأجناس الآيلة إلى زوال، والتي تمثلها الفتاة السويدية إيڤا التي تعمل مبعوثة مهمتها الاطلاع على أوضاع ما تبقى من سكان أرابيا المبعثرين في كل الأرجاء، وضمان سبل بقائهم: “لم يكن لهم حتى حظ تجميعهم وحمايتهم مثل الهنود الحمر.. يتآكلون في عزلة الرمل، المنتصر يموت عطشاً وجوعاً في أرض امتصت كل شيء ولم تعد تنجب إلا الموت”.
يضع كاتب “مملكة الفراشة” العرب الذين لم يتعلموا من وقائع الماضي ولم يعوا مخاطر أعدائهم، يضعهم بين مطرقة التحالف الغربي الإسرائيلي، وسندان “تنظيم الدولة” الذي استكمل ما بدأته “إسرائيل” من قتل للعلماء وتدمير لمقومات النهوض والبناء، فتحوّلوا إلى أشباه كائنات بشرية تتصارع مع بعضها ومع وحوش البراري على البقاء، وقد كان آدم غريب أحد هؤلاء العلماء الذين لفظتهم بلادهم ولم تقدّر قيمتهم فتلقفتهم مختبرات بنسلفانيا: “معنا آرابيون كثيرون في مختبراتنا ومخازننا، وهم نعم المنضبطين، كما الآسيويين واللاتينيين والأيرلنديين وغيرهم، هذه التعددية هي التي تصنع أمريكا اليوم..”.
العرب الذين لم يستفيدوا من نخبهم تحوّلوا بعد انهيار مكوناتهم الجمعية والاثنية والثقافية واللغوية والطائفية والدينية إلى النظام القبلي القديم، لا يعيشون إلا على التنقل والبحث عن الحياة.
محاكمة منطقية بليغة توصّف تدهور الوعي العربي نحو الهاوية شيئاً فشيئاً ليصل في عام ٢٠٨٤، إلى حافة الرمق الأخير، وهذا التأويل التحذيري الذي لا يلام عليه بالاستدلال الموضوعي لواقع مأزوم منذ مئات السنين، يضعنا أمام مشهدية بائسة، فالبلاد التي رفضت الوثائق التي قدّمها آدم المرشح لجائزة نوبل للفيزياء، ليعمل في مخابر بلاده الكيميائية وتقول له: “تخصّصك لا يفيدنا” وتدفعه للعمل في مخبز والده، هي بلاد ستواجه ذلك المصير المحتوم.
آصف إبراهيم