في حقيقة النص الإبداعي وما بعد التأويل
أحمد علي هلال
بطبيعة الحال يذهبُ السؤال ومن جديد إلى متلقٍ افتراضي يعيد تأويل النص الإبداعي بذائقته ومعرفته، لكن ذلك سيبدو منقوصاً إن لم تُفهم الممارسة النقدية بوصفها طريقة في التأويل وليس التفكيك ومعايرة الشكل على سبيل المثال، فتلك الجدلية الأثيرة ما بين مبدع النص ومستقبله وناقده مازالت مفتوحة على غير متغيّر، وليس من ثابت لها إلا في ضوء متغيّرات النص ذاته، كما نظريات الاستقبال التي تباينت في الذائقة الثقافية بحكم منتجيها ومدارسها واتجاهاتها وتياراتها، استبطاناً لدورة حياة جديدة له، إذ يعيدها القارئ/ الناقد لتتصل بالحياة وتعبيراتها، ومع ذلك فمازالت تلتبس في المشهد النقدي هذه المعادلة، حيث إن بعض الممارسات «النقدية» أصبحت أبعد ما يمكن عن ممارسة لغة جديدة حيّة تنوس ما بين الماضي والحاضر وتستعير للقراءة رؤية سابقة عليها، وهو السياق نفسه الذي التبست فيه معطيات المعاصرة والحداثة كما الأصالة والتأصيل، وهذا ما يحتاج إلى ضبط منهجي/ معياري لن يكون شأن الأفراد وحدهم بل المؤسسات الثقافية المعنية كذلك.
وعلى الأرجح فإن تأمل حال النقد -هذه الأيام- سيحيلنا إلى اختلاط في المعايير كما السلوك، إلى الحدّ الذي يعصف بالنص ويسقط عليه رغبات كثيرة وذلك لا يعني أبداً «استقالة النقد» من أدواره المنشودة، بحثاً عن هوية «مستلبة» كما يعتقد البعض، إزاء مشهد نقدي آخر محكوم بتسارع الأفكار والرؤى والمصطلحات والمفاهيم، ونقصد هنا النظرية الغربية التي تصادت فيها الحياة وأصبحت فيها كل نظرية تتجاوز الأخرى، لتقرّ بسياق مختلف لحقيقة الإبداع، ما يعني الاقتراب من الإبداع بوصفه حركة الحياة داخل النص وخارجه أكثر منه داخل ذهنية المبدع، وهذا ينسحب على الفنون جميعها، لكننا نؤثر في مشهدنا النقدي العربي أن نكون أكثر إخلاصاً لحقيقة الإبداع ومعايرة الاختلاف وليس الإقرار به وحسب، إذ ليس بالضرورة هنا أن كلّ ما يُكتب يستحق مقاربة نقدية، وليس بعض ما كُتب لا يستحقها، إذ أن المبدع شأنه شأن الخلية الحيّة التي تتعرّض إلى اهتزازات وارتدادات وأعراض مرضية لتصبح أكثر قدرة على منح الحياة للجسد/ النص.
هل نذهب إلى ما بعد التأويل؟، أي إلى الإقرار بأن النص الإبداعي هو حقيقة مكتفية ومتعالية عن القوانين التي تحاول ضبطه بحدود معينة، فالأدلّ هنا هي حدود المغامرة الإبداعية وكيف نكتشفها، ليس في البنية وحدها بل قراءتها كظاهرة تستحق المحايثة والانتباه، مع القناعة بأن فصل النص عن صاحبه هو فصل إجرائي فقط وليس فصلاً نهائياً، فالنص المتماسك الذي يصدر عن رؤيا كما النص المُجَرِب، أي صاحب التجربة ولم يعد وهماً البحث عنه الذي يقتضي زمناً ليس بالقليل، بوصفه حقيقة من حقائق الإبداع، لكنها حقيقة غير مكتملة لأن المبدع هنا شأنه شأن من يفتح الآفاق ليستنفر مرجعيات الناقد، وتشكيل معرفته لا يستقيم إلا بتداول المعارف عبر ذائقة مختلفة تقود إلى حالة معرفية يبنى عليها، ولا يُكتفى بالرقص على السطوح أملاً بدنو نجمة بعيدة، بل إن معايشة النص في أنساقه وبنيته كما في دورات حياته بمعنى الصيرورة، هو ما يمكن له أن ينتج تعبير المعنى النقدي الذي ننشده كي نزيد في معرفتنا ثراءً ومتعةً معرفيةً، والكتابات المترعة بذلك القدر الكبير من اليأس حسبها طريقة في اكتشاف المعنى، إذ النقيض يُعرف بالنقيض، بعيداً عن الاستجابات العاطفية التي تحكم النصوص في الأغلب الأعم، وهذه الطريقة أقرب إلى استبصار الحزن الذي يولّد بالضرورة نقيضه واكتشاف إكسيره، حتى يشفّ النص ويجهر للذائقة الجمعية بمراميه البعيدة.