“مطر خلل شعاع شمس– تانكا عربي” أنسنة اللغة وإدهاش الدلالات
محملاً بالذاكرة الإشراقية للجوّانية الشعرية، وقابليتها للتعبير وللشرح وللاختزال. د. محمد حلمي الريشة الشاعر الفلسطيني الذي يحلّق في فضاءات روحه التواقة للانعتاق نحو الأشمل بترف جامح الجمال والانحياز للغة بأعلى مدلولاتها، تتوهج مجموعته الشعرية الجديدة بالدلالات الرشيقة ليضع المتلقي بمواجهة مسارين متوازيين الشاعرية واللغة، والتي تدفعك باتجاه ما يريده لك من التذوق الانبهاري. يعمل في مجموعته الجديدة المعنونة “مطر خلل شعاع شمس” على تقنية قصيدة التانكا، والتي تمتد في اليابان ما يقارب 1200 عام. وهي -حسب التعريف- شكل من أشكال الشعر الياباني يشبه الهايكو شكلاً ويختلف عنه تركيباً، وشاعر التانكا على عكس شاعر الهايكو، يعتمد التشبيه والاستعارة وأنسنة الجمادات، موضوعاته الأكثر استخداماً العاطفة، حب، غضب، حزن، فرح… الخ، والطبيعة والأحداث العامة السياسية والاجتماعية والصحية، خاصة وأن الأخيرة باتت عاملاً جديداً يتحكم بحياتنا بعد العزلة الإجبارية التي فرضتها جائحة (كورونا).
يمتلك د. محمد من الجرأة في التعبير الحدّ الذي يمنحك الفرصة للخروج بالنص عن مفهوم النصية.. اعتمد التانكا أسلوباً في التعبير عنه.
مَا مِنْ بِدَايَةٍ لَهُ/ وَمَا مِنْ نِهَايَةٍ، أَيْضاً/الطِّفْلُ الْكَانَ يُحَلِّقُ بِطَائِرَةٍ وَرَقِيَّةٍ/ صَارَ يُخَيِّطُ قَصَائِدَ مَحْوٍ/ مَا أَضْيَقَ الْفَضَاءَ يَا رَبَّةَ الشِّعْرِ!.
اعتمد المظهر الخاص بالتَّانكا والمكوَّن من خمسة أسطر يكون الثَّالث فيها هو الرَّابط ما بين الأَوَّلين والأَخيرين، من دون إِغفالٍ لأَهميَّة علامات التَّرقيم وأَصوات الحروف ودلالاتها.
أَحْفَادِي يَكْبُرُونَ../ يَتَسَلَّقُونَ أَصَابِعِي كَسُلَّمٍ مُوسِيقِيٍّ،/ وَأَنَا أُدَنْدِنُ لَهُمْ أُغْنِيَةً وَرْدِيَّةً عَنِ الْوَطَنِ.
أَبْنَائِي كَبِرُوا: لَيْسَ كُلُّ أَعْذَبِ “الْغِنَاءِ” أَكْذَبَهُ.
مع محمد حلمي كلّ مقطع يمنح المتلقي التأمل والإيقاع في بناء النص متزوِّداً بالحساسية الكافية والذوبان التدريجي في الفلسفة والغرابة والمرارة.. بمعنى أن المعنى والدلالة لا يشكلان بنية إلا في داخل إطاره، وهو تشكيل صالح للتطبيق ضمن الشعر فنّاً ولغة.
مَطَرٌ خَلَلَ شُعَاعِ شَمْسٍ/ يَسَّاقَطُ عَلَى حَدِيقَةِ مَقْبَرَةٍ،/ وَرِيحٌ رَاقِصَةٌ تَـمْزِجُهُم بِسُخْرِيَةٍ./ رَاحَ حَارِسٌ/ جَاءَ حَارِسٌ/ تَصْفِيقُ أَحْيَاءٍ مَوْتَى.
عند الريشة تشكِّل اللغة لا تقف عند الظواهر البسيطة لتراكيبها، بل تحاكي واقعاً موازياً بهدف تعميق المعنى، وترسيخ غموضه، أيضاً، مما يستدعي جماليات إضافية للتعبير ضمن الأسلوب والتراكيب من جهة استخدامه المفردات، وما تتطلع إليه من خلق الرمز والإيجاز من دون إسراف.
بِعَيْنَيْنِ شَرِهَتَيْنِ/ وَلِسَانٍ إِسْفَنْجِيٍّ،/ يُطَوِّقُ جَرَّةَ عَسَلٍ/ بِاسْتِسْلَامِ نَحْلَةٍ-
لِمَاذَا هُوَ الدُّبُّ دائماً؟!.
استسلام المستلب/ النحلة/ بمواجهة المستبيح/ سارق العسل؛ هاتان الصورتان المنفصلتان المتحدتان في تكوين التناقض ونتائجه المجسدة للمشهدية التي خلق الشاعر منها نسقاً جماليّاً يؤدي إلى صورة أخرى تستفيض بشرح أبعاد الاستلاب ونتائجه (لماذا هو الدب دائماً؟).
تمتاز الشعرية المعاصرة بالتعقيد وسريالية التشكيلات ربما، ويمتاز الشاعر الريشة بميله للتبسيط والعناية بانتقاء المفردة، هذا الخط الدال على النضج الشعري المحمول بخيال محلق وأناقة التشويق كأحد أهم عناصر الحداثة أو شروط السحرية الشعرية، والتي تمتلك المقدرة على إثارة الشغب والجدل.
بِانْتِظَارِ هَبَّةِ الرَّبِيعِ؛/ نَبْتَةُ الْفُلْفُلِ الْأَحْمَرِ/ تَسْتَنْشِقُ رَذَاذَ الْغَمَامِ/ فِي هٰذَا الطَّقْسِ المُتَقَلَّبِ-/ لِلْقَهْوَةِ نَكْهَةٌ تَرْتَجِفُ بِرِفْقَتِهَا.
تلك المقدرة التي تصبّ في خلق الواقع الانطباعي للحيوية المدهشة (نبتة الفلفل الأحمر تستنشق رذاذ الغمام) عبر تفكيك الرمز المقترن بالطبيعة (في هذا الطقس المتقلّب) مما يخلق جاذبية الحكاية بالنص كتميز لغوي يؤرجح اللفظ والمعنى عبر الإحالات الإشارية لوظيفة النكهة (للقهوة نكهة ترتجف برفقتها)، بحيث تأخذنا نحو الانفتاح على الحركة والتواتر، آخذاً بعين الاعتبار البدهيَّات الحقيقية، وهو ما يجعل التواتر طاغي الحيوية.
وَرْدَةُ الْفَرَحِ الْوَحِيدَةُ/ فِي قَلْبِهِ الْكِرِيسْتَالِيِّ/ قَامَتْ بِعُذْرِيَّةٍ وَبِشَارَةْ!/ لَيْسَ لِغَرِيبٍ غَيْرُ غَرِيبَةٍ/ تُقَلِّمُ أَحْزَانَهُ وَانْتِظَارَهْ.
الشاعر د. محمد حلمي الريشة جرَّب مشروعه الحداثي دافعاً بالنص النثري، نحو التحطيمي والتراكم الإيجابي عموماً، ومع تأثّره بالتانكا، حاول بعث الحياة في القصيدة المقطعية المعيشة كوجود فاعل ومنفعل على جانب مهمّ من روح الشعرية العربية الحديثة، في كثير من الأحيان.
فِي الْبَدْءِ كَانَتِ الشَّرَارَةْ،/ صَارَتْ حَرِيقاً كَثِيراً،/ خَانَهَا رِجَالُ الْإِطْفَاءْ!/ إِلٰهَنَا.. يَا مَالِكَ المَاءْ/ لَا تُطْفِئْ جَذْوَةً أَشْعَلَتْهَا المَرَارَةْ.
مشحوناً بالاحتجاج ورفض القهر السياسي والاجتماعي والشخصي، لا تغيب عنه هموم السياسة ورفضه للواقع العربي الأشد سوءاً وتفككاً، في عالم يمتلئ بالإرهاصات غير المعقولة، لتبقى فلسطين، نبراسه وجرحه المفتوح على النزف ينفعل ويتفاعل مع أزمات العصر.
بَيْنَ مَا قَبْلِ (أُوسْلُو) وَقَبُولِهَا/ وَ(صَفْقَةِ الْقَرْنِ) وَصَفَعَاتِهَا؛/ تَبَثَّرَتْ بَشْرَةُ قَلْبِي بِخِيَانَاتِنَا./ لِمَاذَا أَيْقَظَتْنِي أُمِّي مِنْ حُلُمٍ بِغَدٍ؟/ أَلِأَسْمَعَ نُبَاحَ (تْرَمْبِ) أَمْ خَشْيَةَ الْـ(كُورُونا)؟!.
مؤكداً أنه ما من إبداع يتشكَّل أو يتطور إلا ليخدم النزعات الذاتية والوجدانية الأكثر إلحاحاً للحرية بوصفها الإطار الشامل للمشروع الإنساني، وقد حتّمت تلك الحساسية العالية للشاعر الريشة كسر الصورة النمطية، والتي تتصف باللا تعيين، وما من شيء يؤرِّقه أكثر من أن العالم مباح للأقوى، لافتاً لتعقيم الوضوح كخلاصة عارمة المرارة بشكلها الأكثر صراحة.
مُنْذُ مَا قَبْلَ الْعَزْلِ المُتَفَشِّي؛/ أَضَعُ كِمَامَةً قَبْلَ أَنْ أَلْتَقِيَ بِالْقَصَائِد/ خَشْيَةً مِنْ عَدْوَى شُعَرَائِهَا-/ أَنَا لَا أَكْذِبُ، وَلٰكِنِّي أُعَقِّمُ الْوُضُوحَ!.
هذا التوظيف الفني المتفرد يمنح مجموعته المعنونة (مطر خلل شعاع شمس- تانكا عربي) مساحة مناسبة للانفلات من قيود الوعي، وليقدّم لنا هذا الاستبصار الجمالي الاستثنائي على صعيد الواقع والوعي الشعريين.
سمر محفوض