مجلة البعث الأسبوعية

الفضاء المسرحي الحلبي.. منصة الأسئلة الحاضرة والفعاليات الغائبة

“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة

لأن مدينة حلب العريقة جزء من المنصة المسرحية الإنسانية، فإن منصتها التراجيدية الكوميدية تحولت مع تحولات ملامح الوجهين الرمزين “المضحك” و”المبكي”، لتخبرنا عن تاريخ المسرح الحلبي الذي يزيد عمره عن قرن من الزمان، وهذا ما يوثقه كتاب محمد هلال دملخي “مسرح حلب في مائة عام”، متناولاً مسرح ما قبل المسرح والفرق المسرحية الزائرة مثل فرقة جورج أبيض، فرقة فاطمة رشدي، يوسف وهبي، نجيب الريحاني، موثقاً للأخبار والشذرات والفعاليات والأنشطة والنوادي والمنتديات وما يخص المسرح الأهلي والرسمي، موضحاً كيف بدأت مرحلة نضوج الحركة المسرحية من المدارس بحيوية وطنية تقاوم الاحتلال والاستعمار، لتنزح إلى حضورها المختلف مع الكاتب والمخرج المسرحي الرائد يوسف نعمة الله جدّ (1842 – 1903) وتجربته المتزامنة مع القباني في دمشق، إضافة للعديد من الرواد الحلبيين، منهم بشير العباسي، شرف الدين الفاروقي، ومن تلاهم من العلامات الفارقة، مثل عمر أبو ريشة، خير الدين الأسدي، فاتح مرعشلي، أحمد الأوبري.

ولأن مدينة حلب وبموقعها الاستراتيجي التجاري الجغرافي الاقتصادي تمثل بطبيعتها المحبة والانفتاح على الآخر وثقافته واختلافه، فإنها احتضنت المسرح كما احتضنت الفنون المختلفة، وبدأت الحركة المسرحية مع رجال الدين الذين أسسوا التجربة المسرحية والفرق المسرحية منذ 1920 بشكل محايث للجمعيات والنوادي التي نذكر منها جمعية الجيل الجديد الثقافية عام 1921، ونادي الصنائع النفيسة عام 1928، نادي التمثيل الوطني، فرقة حسن حمدان الشعبية 1933، فرقة أتاميان ـ فرقة مسرح الشبيبة الأرمنية التابعة للجمعية العمومية الأرمنية، والفرقة القومية للتمثيل 1937.

ومع نشوء الفرق المسرحية، اتجهت المنصة الحلبية إلى مرحلة التبلور عام 194، وانتعشت الحركة المسرحية عام 1950، ثم هدأت مع تراجع دور النوادي والجمعيات بدءاً من الستينيات والسبعينيات لصالح تفاعلات المسارح الرسمية والفرق الرسمية، وتطويرها للحركة المسرحية في حلب خصوصاً، وسورية عموماً، حيث تأسست في هذه الفترة فرق عدة، منها فرقة المسرح العمالي، وفرقة المسرح الجامعي، وفرقة مسرح الطلائع، وفرقة مسرح حلب القومي، وفرقة رابطة الموظفين، وفرقة نقابة المعلمين، إضافة لتشكيل مساحات جديدة للعروض مؤلفة من المنصات والصالات الثقافية والمسرحية والسينمائية.

لكنْ، ومع مطلع الثمانينيات طفت الفرق المسرحية التجارية، وبدأ ألق المسرح الجاد، الهادف، المثقف، بالانحسار نتيجة عوامل وأسباب مختلفة، منها ظهور الدراما التلفزيونية، انزياح الوعي الحياتي إلى المظاهر الاستهلاكية والسطوح الزائفة، والتمادي مع عوالم التكنولوجيا بأشكالها وأدواتها المتنوعة، والهروب إلى الذات وتسليتها بالوحدة والعزلة والمجتمع الافتراضي، والابتعاد عن القراءة، وقلة المبدعين المسرحيين تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً، وابتعاد المتلقين عن المسرح لأسباب ذاتية ومجتمعية ونفسية واقتصادية، ما جعل الغالبية تميل إلى المسرح الهزلي التجاري الاستهلاكي، وأيضاً، ابتعاد بعض المتفاعلين عن الحضور لأسباب تتعلق بالمسرح ذاته، وافتقاده، غالباً، للمختلف والمفيد والمشوق، ولا ننسى ابتعاد المبدعين المسرحيين أيضاً لأسباب عديدة منها الضعف المالي وتخمة المنصات بالمتطفلين على المسرح، وندرة ورشات العمل الهادفة الاستراتيجية البنّاءة، وقلة وضحالة الندوات والمحاضرات المسرحية، وشبه انعدام لحركة النقد المسرحي.

 

تساؤلات وراء الكواليس

ولأكثر من هذه الأسباب، كان لا بد من الانتباه إلى ضرورة تفعيل المسرح بمختلف الطرق والوسائل والإمكانات، والاهتمام بدوره التأثيري في حياة مدينة مفطورة على الفن، ما أدّى إلى ضرورة الاهتمام بالمهرجانات المسرحية القليلة جداً، والتي ولدت مع مهرجان السادس والسابع لفرق الهواة المسرحية عام 1976، وتلاها متأخراً جداً مهرجان حلب المسرحي الأول عام 1997، ومهرجان أيام حلب المسرحية الذي أطلق أثناء احتفالية حلب عاصمة الثقافة السورية تزامناً مع الذكرى الثالثة لانتصار حلب على الإرهاب ، ومهرجان مونودراما الشباب، ومهرجان حلب المسرحي للهواة.

والملاحظ أن ما ينطبق على خفوت المسرح الحلبي ومعاناته ينطبق على المسرح في كل مكان في العالم العربي والعالمي.

فما هي أسباب تراجع الحركة المسرحية بحلب؟ أين النقد المسرحي؟ وما دور الإعلام؟ وهل المسرح بحلب على وشك الأفول رغم أن عدد الفرق المسرحية خلال القرن العشرين تجاوز 114 فرقة، وتم تقديم أكثر من 1056 عملاً مسرحياً، وتجاوز عدد الممثلين والممثلات 13000 ممثلاً وممثلة؟ وكيف سيستعيد المسرح الحلبي توهجه من جديد؟

 

مكاراتي: عدم الاختصاص والشللية

لعل الحركة المسرحية في ركود قاتل، سيما وأن القائمين عليها لا ينتمون الى المسرح، بمعنى أننا لا نجد إدارياً معنياً أو مختصاً بالحراك المسرحي، في جميع المؤسسات المسرحية، وهذا ما يجعل الحركة المسرحية تتراجع لعدم الاختصاص.. هكذا بدأ الفنان الممثل والمؤلف والمخرج المسرحي أحمد مكاراتي، الذي قدم أعماله داخل سورية وخارجها، وآخرها عمله “هجرة وطن” تأليفاً وإخراجاً، موضحاً: في حلب، عندما يتسلم الإداري سدة المسؤولية يقصي أصحاب الاختصاص ويأتي بأناس بعيدين كل البعد عن المسرح، ولا مجال لذكر الأسماء هنا لأننا نناقش حركة المسرح بعمومها؛ ومن ناحية أخرى، نجد أن الكلفة الإنتاجية للعمل المسرحي باهظة جداً قياساً بالعائدات، فأجور الصالات المرتفعة وكلفة العمل لا تتناسب وحجم الدخولات، ما جعل الكثير من الفنانين يبحثون عن العمل التلفزيوني الأربح.

واسترسل مكاراتي: وإذا عرجنا على المسرح القومي، وهو المؤسسة الوحيدة المعنية بإنتاج مسرح مهم، سيما وأنه يمثل وزارة الثقافة، نجد أن أجور الممثلين لا تكفي مصاريف المواصلات التي ينفقها الفنان لحضور البروفات؛ ولا ننسى المحسوبيات، حيث غدا المسرح القومي مسرح الشللية لأناس لم نسمع بأنهم ممثلين سوى فيه، وهذا أحد الأسباب التي جعلت الكثير من المحترفين، ومنهم أنا، يبتعدون عنه.

وأكمل: عندما كان المسرح متألقاً، كان هناك دور مهم للمنظمات في إنتاج مسرح ملتزم يعنى بالقضايا المجتمعية والشبابية، مثل منظمة الشبيبة أو المسرح العمالي أو الجامعي، أما اليوم فقد تلاشت هذه المسارح، ما أدى إلى انخفاض المنتج واقتصاره على بعض التجارب التجارية، ولعلي أصفها بالفاشلة والخاسرة، وهذه التجارب كانت سبباً رئيساً في عزوف الجمهور عن المسرح لأنها عكست الصورة السيئة له.. وطبعاً، هذا لا يعني أنه ليس هناك بعض التجارب المحترمة والمقبولة.

وأردف مكاراتي: حاولنا في الفترات الأخيرة إيجاد الحلول لنهضة مسرحنا وإعادته لألقه، وذلك من خلال إقامة المهرجانات، فنجحنا بشيء وأخفقنا بأشياء.. نجحنا من خلال محاولات فردية رغم وضع الكثير من العصي في دواليب النجاح، وللصدق أقول: وضع العصي كان نتيجة الجهل وعدم المعرفة بخاصية هذا المجال، ولم يكن بقصد الإفشال. مثلاً، قمت منذ ثلاث سنوات بالتحضير لمهرجان مونودراما الشباب الأول، وتعسرت كثيراً بإقناع المؤسسة الفرعية، ولولا تدخل الإدارة المختصة بدمشق لما لاقى المهرجان النور حينها.. وطبعاً، الشكر هنا لمديرية المسارح والموسيقا التي يديرها الفنان المختص عماد جلول الذي تبنى المشروع ودعمه، وبأسلوبه القيادي الخاص استطاع إقناع إدارة حلب التي كانت رافضة للفكرة.. رافضة لعدم اختصاصها وعدم معرفتها بأهمية هكذا مشروع، وبعدها تتالت الدورات ونحن اليوم بصدد التحضير للدورة الثالثة وآمل أن تنتهي العصي الموضوعة.

وبشفافية يؤكد: لعلي أكون صريحاً أكثر إن قلت إن المسرح الحلبي أفل وغاب، ولعله في أسوأ حالاته لكثير من الأسباب، أولها أن مسرحنا بات صنعة من لا صنعة له، وغدا لكل من هب ودب.

لا أريد تزيين الواقع المرير وبهرجته، لكنها الحقيقة، وللأمانة أقول: نحن الفنانون المحترفون نتحمل الكم الأكبر من سبب هذا التداعي والانحدار، لأننا هجرنا المسرح، وجلسنا في بيوتنا ووضعنا يدنا على خدنا، وقلنا: “الموجة سلبية ولا قدرة لنا على مواجهتها”! وهذا كله سمح للطفيلين بالظهور، بحيث آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن.

وتابع متفائلاً: رغم هذه النظرة السلبية إلا أنني مازلت أؤمن بأنه لا يصح إلاّ الصحيح، والمسرح الحلبي صاحب هوية ومنتج مواهب تفخر بها الدراما السورية، وأنا على يقين مطلق بأن مسرحنا سيعود، ولكن لابد من عوامل أساسية: أولها عودة مسارح المنظمات التي هي الرافد الرئيس للحراك المسرحي والمختبر الذي يولد المواهب ويصقلها ويضعها على الطريق الصحيح، وثانيها تسمية إدارات مختصة بالمسرح تعي أهمية المسرح في ثقافة المجتمع، إضافة إلى الاعتماد على المواهب المختصة وإقصاء من لا علاقة له بالفن.

وأضاف: هنا أناشد مديرية المسارح بضرورة إرسال بعض التجارب المسرحية إلى حلب ليتسنى لنا مشاهدة تجارب متعددة، كما أناشد نقابة الفنانين أن تفعّل دورها في تقديم الدعم للمسرح والمسرحيين من خلال تخفيض أسعار الصالات، وتشجيعاً للزملاء الفنانين على العمل، ولعلهم يقولون: نحن نساهم، ولكني أقول: نعم، ولكن حصة المنتج من الحفلات الموسيقية هي الحصة الكبرى، بينما بقي الفن المسرحي منسياً.

وختم مكاراتي الذي كتب وأخرج 49 عملاً مسرحياً: إذا أردنا النهوض بمسرح حلب وإعادة ألقه، علينا أن ندعم الفنان المسرحي مادياً ومعنوياً، وأن نزيد المهرجانات المسرحية.

 

مكانسي: الخشبة لا ترحم الأغبياء

الفنان المسرحي غسان مكانسي يرى أن المسرح الحلبي يحتاج لكثير من الدعم المؤسساتي للموهوبين والممثلين والمؤلفين والمخرجين والفرق المسرحية، وأكد: رغم ذلك، المسرح بحلب ليس ميتاً.. بالعكس، يعمل، لكن المطلوب حركة مسرحية إبداعية تليق بحلب ذات الخصوصية، والتي تعتز بكثير من المؤلفين والمخرجين “الحلبية”.

واسترسل: نفتقد محوراً أساسياً هو النقد المسرحي الموضوعي والمثقف، فلا يكفي أن ننتقد أنفسنا بأنفسنا، لتتحكم بآرائنا وانطباعاتنا العواطف. ولفت إلى ضرورة أن يكتب الإعلامي عن العمل المسرحي لا عن طريقة الاستقبال والحفاوة والجلسة.

وتابع المبدع غسان مكانسي: الفن وجهات نظر، وصورة مجمّلة عن الواقع، لكن، لا بد من أن تكون منصة “أبي الفنون” حافلة بمسرحي ذي ثقافة شاملة، ليقف على خشبة المسرح وهو عارف بالموسيقى والإيقاعات والبحور وفلسفة الألوان ودلالات الرقص والكتلة والفراغ بمنظور الفنان التشكيلي، لأن الخشبة لا ترحم الأغبياء ولا أنصاف المواهب، بل تعزّ تعزز أصحاب الثقافة والمواهب الكاملة المصقولة بالثقافة والقراءة والعلم والخبرة والنقد.

وأكمل مكانسي: نشجع ونصفق ونكتشف الكثير من المواهب الجميلة والمميزة التي لا تطور ذاتها فيما بعد.. نحن أمة “إقرأ”، فلنقرأ ونتبادل الخبرات والمعارف ونتطور، لذلك أتساءل: أين الجديد في المسرح؟ فلا بد للفنان أن يتمتع بمخزون ثقافي مرعب ومخيلة جامحة، وأن يدرس الكلمة والدور والتفاصيل، كما أن المسرح لا يبنى بمبادرات فردية.. نحن بحاجة إلى توظيف الفنانين، وإلى الإعفاء من إيجار الصالات، لأننا إن لم ندعم الثقافة والفنون والإبداع، لا يمكننا تشكيل حركة مسرحية ملفتة تسعى إلى تجذير المستقبل بدءاً من الإنسان.. نحتاج لدعم مكثف من جميع الجهات وعلى كافة الأصعدة.

وأكد مكانسي على الدور الإيجابي لنقابة الفنانين، مؤكداً أنها تحاول تقديم حالة إنعاش لكنها لا تملك السيولة الكافية. وطالب بتكريم الفرق الحلبية لأنها بحاجة لدعم مادي ولوجستي، ولأن المسرح مكلف.

وباح بمكنوناته قائلاً: أحلم أن أعمل مسرحاً غنائياً، لكن من سيدعمني ويساعدني رغم أن الطاقات الإنسانية موجودة؟ وختم: تنقصنا المحبة والتعاون من أجل المصلحة المسرحية العليا.