طيور بيضاء
د. نضال الصالح
وذاتَ عصف حزن وأنتِ تبكين حلب التي افترستها الضباع كنتُ أردّدُ: “وذات صباح لن يكون بعيداً سأخاصركِ ونصعد درج القلعة معاً، وأمام الناس جميعاً سأغمركِ بالقبلات، وسأرتّل حتى تسمع حلب كلّها: أحبّها، أحبّكِ، ثمّ ستتسابق الفضائيات إلى خبر عاجل: عاشقان شوهدا في سماء المدينة، وفوق رأسيهما تحلّق طيور بيضاء تزقو بعضها بالقبلات.
هل تذكرين؟ لا بدّ أنك تذكرين عندما كنتِ تسألين فيما إذا لم أكن نسيت بطاقتي الشخصية في البيت كعادتي دائماً، فأقول لكِ: “ما حاجتي إلى البطاقة الشخصية؟ يكفي أن يراها / يراكِ أحدٌ في عينيّ، فيعرفني”. والآن، وأنت ترين علم البلاد يرفرف بكوكبيه الأخضرين في أعلى القلعة، لا بدّ أنّك تذكرين أيضاً ما كنتُ أقول: “إنْ قال أحدٌ لكِ إنّ عينيك فتّاكتان، فلأنّه رآني في كوكبيهما مضرّجاً بدمي”.
كوكباه، كوكبا عينيك، فتنتي الأبد. ولطالما كنتُ، كلّما هزمتني اللغة، أتوسّل الأخضر فيهما، ثمّ ما أكاد أبدأ لثغ روحي بالحرف الأول منهما، حتى كانت اللغة تتثنّى بين يديّ كراقصات السماح، ولطالما، كلّما استبدّ بي حزن، وأنا بعيد عنها، عنكِ، كنتُ أستعيدُ ما كتبتُ لكِ ذات وجد: “كلّهنَّ مجاز نساء، وحدكِ حقيقة، والأبواب كلّها مجاز أبواب، ووحده الحقيقة”، وكنت أعنيه، باب المقام الحيّ الذي يتوسّد ساعد القلعة من جهتها الجنوب. الحيّ الذي ولدتُ فيه، وعشت طفولتي وبعض فتوتي فيه. الحيّ الذي كتبتُ لك ذاتَ صهيل يأس كان تمكّن منكِ: أقسم لكِ سيعود، فإنْ مت قبل ذلك اليوم، فامضِ إليه، إلى الباب، ثمّ ضعي خدّك على ذلك الحجر الشامة في ساعده الأيسر. ستخرجُ روحي لكِ منه، وللتوّ سيتضرّجُ خدّكِ بالأرجوان، ثمّ وأنت تهدلين: “لم أرتوِ”، سيبدع الكون، على إيقاع صوتكِ، مقاماً جديداً في الموسيقى، وستستعيدين ذلك اليوم عندما كان الثلج يغمر القلعة، وبينما كان الجميع يتراشقون بمقدّس بياضه، كنتِ وأنا نتراشق بالقبلات، وما إنْ كنتِ ترنّمين: “أحبّكَ”، حتى كنتُ أسمع صوتاً من السماء: وأمّا بنعمة ربّكَ، فحدّثْ. وكنتُ أضحكُ وأردّد: “سآوي إلى جبل يعصمني منكِ”، وكنت تضحكين، ثم ترتلين: لا عاصم اليوم من أمر الله.
قبل سنوات، في ذلك اليوم الذي رأيتك فيه على عجَل لأنّ الضباع كانت تمطر الساحة بقذائفها الحقد، وتعيث في حلب خراباً ودماراً، وعندما كان البرد ينفذ إلى عظامك، وبينما كنتِ تحتمين بي، كنتُ أقول لك: تعالي نمضِ إلى الرجال الواقفين في العراء الآن لكي نتدفأ نحنُ بالحياة. أعني الرجال الذين يدافعون عن حلب، عن سورية، وعندما كان عطركِ ينفذ إلى خلاياي كلّها، كنتُ أستعيد لازمتي لكِ: غير مرّة قلت لك ألا تتعطري. غير مرّة قلتُ لك: الماءُ وهو يلامس أيّ شيء منكِ يصير عطراً، وكان كوكبا عينيك يغدقان من رقصهما عليّ ما طاب للشغف من الشغف، وكنتُ أقول: وللهِ في خلقه شؤونٌ، ولكِ وحدكِ، في رقص عينيكِ، شأنه.
غداً، وأنت تمضين إلى القلعة، إلى باب المقام، قولي لهما: صدقَ وعدُ حبيبي، صدقَ وعدُ الرجال.