مصادر السيّر الشعبية وأساليب سردها
“البعث الأسبوعية” ــ فيصل خرتش
السيّر الشعبية هي حكايات عن أبطال وجدوا في التاريخ العربي القديم، من أمثال: عنترة بن شداد والملك سيف بن ذي يزن والمهلهل والظاهر بيبرس والأميرة ذات الهمة والشاطر علي الزئبق ودليلة المحتالة. وتساعد روح التسلية في السيّر الشعبية عناصر عديدة من روح المغامرات، وتتضمن السياحة والجولات في البّر والبحر، وملاحقة الأعداء والانتقام والتنافس على الفتاة المحبوبة، ومكافحة اللصوص وقطاع الطرق والعياريين والشطار وحماية الضعفاء، والمظلومين والسحر والإنقاذ بمعجزة.. إنّ ثراء مضمون السيّر الشعبية لا ينضب، فمن أين يستمد واضعوها هذه المضامين؟
تقوم السيّر الشعبية على مآثر البطل والأساطير التاريخية؛ فمثلاً، سيّرة عنترة تتضمن روايات قديمة عن أيام العرب، حرب البسوس، داحس والغبراء، وكرم حاتم الطائي وبطولات زيد الخيل، وعمرو بن معد يكرب، ودريد بن الصمّة؛ وتحتوي على مشاهد من معركة ذي قار. ومن هذه السيّر يمكن أن نستشف تصوراً يكاد أن يكون كاملاً عن مجمل الأساطير والروايات عند العرب القدماء.
وتتراءى الحقيقة التاريخية بشكل أدق في سيّرة “الأميرة ذات الهمة”، ويدور الكلام فيها حول التناقضات العربية – البيزنطية، وضمنها المعارك الحدودية بين العرب والبيزنطيين؛ وينطبق الأمر ذاته على “سيّرة الظاهر بيبرس”، وتمثل الخلفية التاريخية في سيّرة “تغريبة بني هلال” الإشارات عن استيلاء قبيلة بين هلال على مناطق شاسعة من أراضي المغرب، ويشكل القسم الأكبر منها وصف المعارك والصدامات بين القبائل التي يستعصي إثبات واقعيتها التاريخية.
وتشكل مضامين الحكاية أو الأسطورة في السيّر “معجزة الولادة”، وإرضاع الأبطال المذلة في الطفولة، إذ يكونون عادة في عداد العبيد واللقطاء والمنبوذين (عنترة – ذات الهمة – سيف بن ذي يزن)؛ ومن لوازم السيّرة تجلي البطولة والشجاعة الفائقة، حتى حين كانوا في سن مبكرة، فعنترة يقتل أسداً بيديه، ويشق فكيه وهو صغير، ويتميز بالفطنة والشطارة والجرأة إلى حدّ عجيب.
موضوع التظاهر بالموت غير الحقيقي معروف، ويرد ذلك في أسطورة يوسف الحسن في سيّرة “الملك الظاهر بيبرس”، ومن المشاهد المعتادة هذا الحلّ لعقدة الحبكة التي تنتشر على نطاق واسع في فلكلور شعوب المنطقة ].. يذهب الملك إلى الصيد ويطارد غزالة، فيفقد أثره ويصبح وحيداً بدون حاشيته، ويجد نفسه في أرض مجهولة حيث تعرض له مغامرات كثيرة، وهذه العقدة نصادفها في “سيّرة عنترة”، و”سيّرة سيف بن ذي يزن” و”الظاهر بيبرس” و”تغريبة بني هلال”[. وتحكي السيّر الشعبية عن خلق العالم، وظهور بعض البلدان والجزر والجبال والأنهار، وتكثر في “سيّرة الملك سيف بن ذي يزن”، حيث نستشف بكلّ وضوح كيف تظهر الأساطير والحكايات التراثية.
ويلاحظ أيضاً وجود مساعدين للسحرة في “سيّرة سيف بن ذي يزن” و”الظاهر بيبرس”، وهذا يؤدي إلى الزهاد والسحرة، وحتى العفاريت والجن والغول الذين اعتنقوا الإسلام.
وتستخدم السيّرة شخصية الإسكندر المقدوني الشهير باسم الإسكندر ذو القرنين، وتستخدم السيّرة قصته في معرض الرحلة التي قام بها مع الخضر، وحاول الإسكندر أثناءها عبثاً العثور على العين التي فيها ماء الحياة، التي تمنح الإنسان الخلود إذا سبح فيها. وفي هذا المشهد أيضاً تأتي “حكاية عنقود العنب” الذي أطعم منه الإسكندر جميع أفراد قواته؛ فالعنقود “رمز لحلاوة الدنيا التي مهما ذقت منها لا تنتهي”، أو عن الجوهرة الصغيرة التي يرجح وزنها كلّ ثقل الأرض، وتزيد عليه، وهي رمز للعين التي لا تشبعها كلّ ملذات الدنيا، ولكنها في النهاية تكتفي بحفنة من التراب.
تستوعب السيّر الشعبية كذلك بعض المصطلحات الرمزية الإسلامية للتأثير على الجمهور، ومن دلائل ذلك استخدام رموز مثل “مروج الفردوس الخضراء” و”وديان الجنان” و”القبة البيضاء” التي تجسد طهارة ونقاوة أولياء الله الصالحين. وتقتبس موضوع الجن من الأساطير الإسلامية، وهذا الموضوع معروض بشكل مفصل في “ألف ليلة وليلة”، وفي حكاية “مريم الزنارية”، وكذلك في “سيّرة الملك سيف بن ذي يزن”. إن الجن ينقسمون إلى مؤمنين وكفار، والصراع يدور فيما بينهم، ويساعدون أبناء دينهم في كافة المجالات.
وتعدّ ضمن العناصر الخيالية في السيّر الشعبية المواقف والمشاهد العديدة من الألغاز والأحاجي واستخدام الطلاسم، وبالأخص في سيّرتي “سيف بن ذي يزن” و”الظاهر بيبرس”. ويلعب الغناء العربي دوراً هاماً في السيّر، وهو كثير في “تغريبة بني هلال”، وكذلك الأحاجي والفوازير ونحوها، شعراً ونثراً، وهي تلقى على البطل أبي زيد الهلالي من قبيل الامتحان، وغالباً ما يخرج من هذه المساجلة منتصراً ويفوز فيها.
وتشكّل نواة سيّرتي عنترة وسيف بن ذي يزن أخبار عرب الشمال وعرب الجنوب والمعلومات والأساطير عن الشاعر عنترة بن شداد، والملك اليمني سيف بن ذي يزن كأنموذج لنسج الأخبار والمعلومات والأساطير المتأخرة على منوالها؛ وقد جرت هذه العملية على امتداد فترة القرون الوسطى عن طريق الإشادة القصصية بأبطالها، منذ فترتي ما قبل الإسلام والعصر الإسلامي، على هيئة سيّرة شعبية، بينما استمر فن السيّرة الأدبية التاريخية الدينية بما يخص سيّرة الرسول وأخبار الأولياء الصالحين.
إنّ السيّر هي من نتاج الأدب الشعبي بحجم ضخم جداً، وهي معدّة للأداء الشفوي والإلقاء على أسماع الجمهور، ويقوم بناؤها وفق خطة معينة، والقوى المحركة لمحتواها تكمن في الصراع بين قوى الخير، ممثلةً بالمقاتلين المسلمين الأبطال، وقوى الشر التي “تتجسد في الشخوص من ذوي الديانات الأخرى”؛ وهي معدّة للإلقاء في جلسات منفصلة على هيئة حلقات متسلسلة، كلّ حكاية منها في جلسة منفصلة؛ ومن السمات الأخرى للسيّر المرور الكبير للحوار، وغلبة الكلام العامي، واستخدام الكلام المسجوع في أغلبها، وغزارة الإضافات الشعرية التي تتسم بالطابع التصويري التوضيحي لكي تحفز وتنشط الحركة في السيّرة، كما تغريبة بني هلال.
تلك هي العناصر الأساسية التي تكوّنت منها مؤلفات السيّرة، ويشهد تنوعها على أن النوع الأدبي للسيّرة الشعبية له تاريخ طويل في النشوء والتكوين؛ وقد وردت أخبار وأشعار عنترة على المحاربين قبل شن المعارك؛ وطبقاً للتقاليد فقد كانت هذه الأشعار تتلى مقاطع نثرية تتحدث عن ظروف نظمها ومناسبتها القصصية.