سعيد حورانية.. قصص تتراوح بين العناية بالواقع الاجتماعي والاحتجاج عليه
يعدّ سعيد حورانية من روّاد الاتجاه الواقعي، وقصصه تتراوح بين التقنية الفنية الجيدة والأداء الفني الحديث، وبين الخطابية والوصف الخارجي، ولكنها تتفق جميعها في تقدمية المضمون والعناية بالواقع الاجتماعي، والاحتجاج عليه ورفضه، يقول عن قصصه: “إنّها جزءٌ من عمري، ومن عمر هذا الوطن، كنت أحبّ أن تصل إلى يد القارئ منذ زمن طويل، ولكن الظروف البائسة التي تعيشها بلادنا، لم تتح لها الظهور”.
إنّه يتمثل في قصصه تجربة الشباب التي عاشها في خمسينيات القرن الماضي، والتي شكّلت نقلة مهمّة بين التقليد والحداثة، بين القديم ببنيته المتآكلة، والجديد الذي يتطلّع إلى البناء وإعادة التشكيل الاجتماعي، وعالمه –في القصة– هو عالم كفاح وتغيير، عالم صراع ينتهي غالباً بانتصار قوى الشعب، ذلك أنّ سعيد حورانية يضيف إلى عالمه القصصي رؤيته الفكرية لحركة التاريخ: الإيمان بالمستقبل والإنسان، والواقعية عنده هي رؤية لحركة الواقع، واتجاه لهذا الحركة.
تشكّل مجموعاته الثلاث خط سير واضحاً، وقد بدأها تسجيلياً، يسجل الواقع بكلّ تفاصيله، فيبدأ بالمشكلة الاجتماعية، وينقدها، كما هي القصة التي كانت سائدة في تلك الأيام، ثم بدّل في موضوعاته إلى مواضيع أخرى، تنهل من الواقعية النقدية، واستخدم تقنيات حديثة في القصة، تشمل كلّ جوانب المجتمع، وفي طرف آخر ستظهر قوى أخرى هم بقايا الاستعمار والمتنفّذون والذين يكدّسون الأموال، وهذا الصراع ينمّ عن موقف أخلاقي يحاول ربطه بالحاضر من خلال الماضي، يعتمد على إغناء قصصه بالرمز والبناء التعبيري، والأسلوب الشاعري الشفاف، عبر صياغة جديدة للواقع، إنّ المستقبل سيكون لمن يتحدّى الظروف التي حوله، ويستلهم التاريخ من خلال إحياء سير أبطال الثورة السورية، ومن خلال معرفته بالسير الشعبية، وفي قصصه يعرض صوراً من الاستبسال الوطني والشعبي في وجه القوى الغاشمة متمثلة بالاستعمار، وضد الظلم الاجتماعي لتحقيق العدالة والحرية، فقد عاد أحد أبطال قصصه، بعد سنين طويلة من السجن والتعذيب في مستعمرة “غويانا” ليعمل آذناً في مدرسة القرية.
وُلِدَ سعيد حورانية في دمشق عام 1929، والتحق بالمدرسة الابتدائية الوطنية فمدرسة التجهيز الأولى، ودخل جامعتها، قسم اللغة العربية وتخرج منها، ثم نال دبلوم التربية، عمل في التدريس فترة، ثم اشتغل في وزارة الثقافة، حتى وافته المنية عام 1974، كتب القصة القصيرة والمقالة والمسرحية، ويعتبر أوّل من ربطها بالواقع اليومي المعاش، وقد وظّف الطريقة الوثائقية في بناء قصصه، كان عضواً في رابطة الكتاب العرب، واتحاد الكتاب العرب– لجنة القصة، وكتاب آسيا وأفريقيا. نشأ في بيئة ذات تركيبة دينية، فوالده كان شيخاً بيده الحل والربط، وكان بيتهم لا يبعد عن بيت أحد زعماء الثورة على الفرنسيين أكثر من خمسين متراً، وكان والده من أركان حربه، فقد كان يجمع له التبرعات أثناء الثورة على الفرنسيين وأسرته من أصل بدوي، قدمت إلى الشام من حوران، واستقرت عند أطرافها، وتعمل بالحبوب، وفي بداية حياته كان متديناً، يدرس في الجامع وينام فيه، وكان له شيخ يساعده في اللغة والألحان.
حين أصبح في صف الكفاءة، لم يعد أبوه قادراً على تسديد أقساط المدرسة، فعمل في مصنع الكبريت في العطلة الصيفية، وعندما أصبح في الجامعة، يقول عن ذلك: “أيامها كنت قد بدأت الكتابة فشاركت في عدّة مسابقات، نلت الجوائز فيها مثل مسابقة النقاد وعصا الجنة، فصرت معروفاً”. هو وشوقي بغدادي تطورا معاً في الفترة نفسها، وكان أصحاب شوقي جلّهم من القوميين السوريين، في البداية كتب الشعر، وهذا بتأثير شوقي بغدادي، ونشره في مجلات النقاد والرسالة والأديب، وكان شعراً رديئاً، أمّا عن القصة فصداقته لها ترجع إلى ما قبل ذلك، فقد كان يجتمع في بيتهم عدد من المسنين والمشايخ، وكان يدعى إليهم ليقرأ لهم سيرة عنترة، وكان والده يقول له: “ضخم صوتك يا بني…”. كانت أوّل قصة تسمّى “الصنوبر النحاسي” وشارك بها في مسابقة النقاد، وكانت النتيجة أن اللجنة منحت قصته الجائزة الأولى، ولكنها حجبت عنه، واعتبرته اللجنة سارقاً، وعلى الكاتب أن يدلها من أين “لطش” القصة، فردّ عليهم في مجلة النقاد، بأنه يتحداهم جميعاً، وكتب القصة وكان يجلس بجانبه عبد المطلب الأمين، إنها قصة أمّه، لكنه خلط معها أشياء أخرى، ولم تردّ اللجنة عليه، عند ذلك صار ينزل إلى مقهى البرازيل ويتبختر، وقد قال نزيه الحكيم لفؤاد الشايب: “سعيد هو كاتب القصة فعلاً، لكن إذا اعترفنا تبهدلنا”.
المهمّ في ذلك أنه أصبح كاتب قصة، تاريخياً وتكوينياً، وصار يقرأ بشكل كبير وليس هناك كاتب قصصي أو روائي صدر في تلك الفترة إلا قرأ له، وكان يكتب في تلك المرحلة عن حيّه وبيته، فقد كتب مجموعته الأولى “وفي الناس المسرة” عن علاقته مع عائلته بالذات.. عن ثورته عليها.. عن الأفكار المخالفة لأفكاره وصراعه معها، الصراع بين العاطفة العائلية في مجتمع متخلّف الذي يموت فيه الإنسان دونها، وقد طرده أهله وعاش أربع سنوات خارج البيت والأسرة.
ألهمته الحياة في دير الزور والجزيرة عندما نفي إليهما، بعض القصص منها “وأنقذنا هيبة الحكومة” و”محطة السبعا وأربعين” و”عريضة استرحام” و”قيامة العازر” ورواية طويلة هي “بنادق تحت القش” وقد صودرت منه مع قصص كثيرة عندما سجن في بيروت أثناء الهروب إلى لبنان.
أمضى ثلاث سنوات في لبنان من (1963 إلى 1965) وطبع فيها “شتاء قاس آخر” و”سنتان وتخترق الغابة” على حسابه الخاص، ثم عاد إلى سورية ليدّرس في مدارس خاصة.
أضاف سعيد حورانية إلى القصة اللمسة الناعمة، ومزج ببراعة بين السرد والتصوير والتحليل النفسي، ولاسيما باستخدامه ضمير المتكلم، كما عني بأساليب توظيف الطبيعة واللقطات الحانية واستخدام التفاصيل التي تخلق جوّ الحدث وتشارك في تطوير الصراع وتمهّد له بالتحول.
فيصل خرتش