“من القلب.. وإليه”.. شغف الحكاية
نكتب في هذه الحياة عقولنا.. وأرواحنا.. وأنفاسنا مازالت طيبة لأننا ولدنا تحت أشجار تحبّ الأرض وتعشق السماء المعلقة بالشغف، ربما نكتب لأن الكتابة متنفس لأرواحنا في زحام الواقع.. نكتب من أجل الذين نحبهم لأنهم حبر كلماتنا. وهذا ما نجده في نصوص الكاتبة رنده القاسم التي عنونتها بـ”من القلب.. وإليه”، وابتعدت فيها عن بنية القص وتقنياته الفنية، وتركت قلبها يسكب بوحه على الورق، بدءاً من الغلاف الذي مثّل لوحة طفلة تنام على غيمة من حلم للفنانة لجينة الأصيل، إلى الصفحة الأولى التي سجّلت عليها إهداءً تقول كلماته: “إلى روح أجمل صبية.. أمي رباب.. وإلى قلب أجمل أب أخي سعد”، ثم تقدّم لنصوصها بشرح للعنوان فتقول: “من القلب” لأنها كلمات كانت تخرج من قلب لحظات حزن أو فرح أو خوف مرّت بقلبي وبقلبي كتبتها. و”للقلب” لأني أردت لقلب أن يذكرها دائماً، وأردت أن أرسلها إلى قلوب دون سواها، قلوب تدرك كلام القلوب وأعماقها.. شكراً لكل من صاغ لحظات قلبي الجميلة، وشكراً لمن قرأها بقلبه.
عبر ما يقارب السبعين نصاً تدوّن الكاتبة رنده القاسم يوميات عاشتها مع أشخاص شكّلوا تفاصيل حياتها، منهم من كان يليق بهذه الحياة ومنهم من صُدمت بهم وخذلوها بأفكارهم واختياراتهم الخاطئة التي حادت عن بوصلة الحقيقة. تبدأ رنده نصوصها بحديثها عن “رباب” والدتها التي كانت أبجديتها الأولى في الحياة، منها تعلّمت القيم بأبسط الحالات وأسلوب التربية الذي نفتقده اليوم، وقد خصّتها بأكثر من نص كـ”إلى أمي مع كل غيظي” فيها تخاطب والدتها بصوت كل طفل تستوعب أمه كل حماقاته برحابة صدر واتساع أفق، ونظرتهم لنا أنه مهما كبرنا يبقى ينقصنا الكثير من خبرة الحياة، ونكتشف كم أنهم على صواب. وفي نص “آثار” تتحدث رنده هنا عن ذكرياتها مع والدتها وتلك الغصة الموجعة التي ترافق ابتسامتها، وهي ترى الذكريات تترك آثارها على الأشياء التي لمسها أحباؤنا.
في نصها الثاني الذي عنونته بـ”أن يكون شقيقك رئيس تحرير” تتحدث عن المسؤولية التي عاشتها تجاه أخيها سعد الذي نمّا لديها بذرة الكتابة والإبداع واقتناص كل لحظة يمكن أن توثق فيها موضوعاً ما، ونصائحه أن تكتب ببساطة وعفوية دون أن تقسر تفكيرها على شيء، وكلما تمكّنت من فكرتها ازداد أسلوبها بساطة، وتعترف بحرصه على تكوين خصوصية واستقلالية لاسمها بعيداً عن اسمه، وكانت تتحمل منه الكثير من الانتقادات التي تحمل في طياتها الكثير من التشجيع والكثير من الحب والاهتمام، واستطاعت أن تثبت حضورها في كل مراحل تجربتها المهنية والحياتية.
في قصة “الحمام الزاجل الإلكتروني” تتحدث عبر قصة حبيبين نأى بهما الزمان وكانت الرسائل هي زوادتهما في اختصار المسافات البعيدة، عن الفرق بين الرسائل المكتوبة ورقياً التي تعطي لحروف الكتابة قيمتها وتأثيراتها بمنحنياتها العاطفية، ونقاطها التي تختزن رجفات القلوب، وحركة الأصابع تشرد في صفاء الورق تعكّر نقاءه البارد وتعطي للون الحبر قيمته، وبين رسائل الكمبيوتر المنمقة بخط جميل رتّبه الحاسوب الذي حلّ بديلاً عن صندوق البريد الصغير، وكم أزعج الحبيبة أنها تستطيع امتلاك مئات النسخ من رسالة حبيبها الذي طالبها أن تكون واقعية، لأن الكون لم يعد يحتمل كل هذا القدر من الرومانسية وحبه لها أكبر من مجرد ورقة فوضوية، ومازحها قائلاً: (هل تراك لرومانسيتك تفضلين لو كنت تعيشين أيام الحمام الزاجل) فردّت على مداعبته: (هل يسافر الحمام الزاجل عبر الانترنت؟).
في قصة “الآنسة عفاف.. صباح الخير” تعود بنا رنده إلى أيام كان للمعلم احترامه الكبير وكيف كنّا ننظر له بحالة من القداسة، ونحب المادة لمحبتنا أستاذها، وحتى بعد أن يمرّ الزمن يبقى إحساس الخجل من أساتذتنا مرافقاً لنا.
كتبت رنده أكثر من نص عن الوطن والشهادة، لكن استوقفني نص “على طريق 2013..” الذي عرفت بعد أن أنهيت قراءته أنه القصة الحائزة على الجائزة الفضية في مسابقة “هذه حكايتي” التي أطلقتها مؤسسة وثيقة وطن عام 2019. وقد قسمت تلك القصة إلى ثلاثة مقاطع، تحدثت في الأول عن فسحة الحب التي تنبثق من وسط الانفجارات والدمار لتؤكد لنا أن الحياة تستحق أن تعاش عبر فراشة كانت تناغيها وترفرف بأجنحتها فوق مظلتها وهي في طريقها إلى عملها، فاعتبرتها بشارة للخير مقابل كل هذا الشر والأذى. وكذلك حالة الشاب والفتاة اللذين يهزمان الحرب وكل هزيمة إنسانية بالحب الذي يجمع بين قلبيهما، هذا الحب هو منقذنا من كل انكساراتنا وهزائمنا وخيانتنا لأنفسنا بعدم يقيننا بالحب الذي به تعمر أساس الكون وكان البشارة الأولى للأنبياء جميعاً.
في المقطع الثاني من الحكاية تتحدث عن مزاجها الذي لم يحتمل صخب وضجيج رجل رافقها في المصعد، وعندما وصل الرجل الصاخب –كما سمّته- إلى وجهته حاولت تذكر اللحظة الفاصلة الغريبة جداً والهاربة من كل اللحظات السابقة لحظة التفت “المزعج” فجأة إلى رجل آخر قائلاً: “بتعرف انو وحيدنا استشهد من شي شهرين بجوبر.. اتطوع هالعنيد من غير ما يخبرنا”. وعبارة الرجل الآخر أنه “كان يشوف الدنيا من عيون ابنه”. فتقول رنده: “وأنا هنا أحاول أن أكتب هذه الكلمات أحاول أن ألملم صورته في ذهني بين ضحكه ونعيه لوحيده فأعجز عن ذلك، وأراني أخرج معه من ضيق المصعد وعند بابه أقف لأنعي بفخر وحزن شهيداً جديداً.
في المقطع الأخير من الحكاية تقول: غص حلقي بكلماته: “عريسك يا سورية.. شهيدك يا وطن ما تزوج لسه.. عمره 28 سنة.. آخ يا بلد”.. رجل يجلس في حديقة الساحة ليملأ صوته المذبوح كل الساحة.. يبكي أخاً أو ابناً أو صديقاً.. وقفت احتراماً لحزنه.. واحتراماً لدموعه مشيت.
في مشهد آخر تصوّر لنا، وغصّة تقف في حلقها، حالة عجوزين، يداهما متشابكتان، يتقدم أحدهما خطوة ويعود الآخر خطوة في محاولة لعبور الطريق.. تقول الزوجة: “لك صار عمرك هالعمر ولسه بتخاف من السيارات؟ أنا معك لا تخاف”، مازالت كلمات الرجل الباكي تخنقني، غير أن تشابك يدي العجوزين دغدغ قلبي، بقيت معهما في مكاني والسيارات تعبرني وتعبرهما.
وتختم بأغنية “يا بلادنا أنت لنا عز وغنى”، بدت لي الأغنية وكأنني أسمعها لأول مرة يصدح بها راديو ترانزستور صغير كان بجانب حارس شاب لأحد المباني الحكومية.. “يعطيك العافية”، قلتها وأنا أعبره مسرعة ولكن تباطأت مشيتي مع حماسه بالرد “الله يعافيك يا رب.. يا هلا” تابعت السير بين غصة ودفء وابتسامة وغضب وفي رأسي علقت أغنية “يا بلادنا أنت إلنا عز وغنى يا بلادنا”.
في قصة “صحيفتي” تتحدث عن تجربتها في صحيفة الثورة التي امتدت لعشرين عاماً، هذه الصحيفة التي تحوّلت وطناً صغيراً لها، وتجسيداً لكل الأحلام التي كانت تحملها في داخلها مع تفتح ربيع ورودها. “صحيفة الثورة الحلم والحقيقة الجميلة تغادرها إلى عمل جديد وتستودعها ذكرياتها وقطعة من روحها، تبادلها الوفاء بالوفاء، والحب بالحب”.
كل ما دوّنته رنده القاسم في هذه النصوص خرج من القلب إلى قلب كلّ من سيقرأ هذه النصوص التي كان الصدق والعفوية والحب ناظمها الأساسي.
سلوى عباس