الإعلامي جمال الجيش: نحن أمام استحقاق ثقافي بامتياز
اختار الإعلامي جمال الجيش “الثقافة بين الحاجة والترف” عنواناً لمحاضرته التي قدّمها مؤخراً في مركز ثقافي أبو رمانة، مؤكداً أن ما نعيشه الآن ما هو إلا انعكاس لأزمة ثقافية يعيشها العالم بشكل عام ومنطقتنا بشكل خاص، وهي بشكل أو بآخر ظهرت بأبشع صور في عملية الانقضاض على سورية ومحاولة تدمير بنية ومكوّنات الشخصية الثقافية السورية بتفتيت وتشظية المجتمع السوري، لذلك كنّا نلاحظ في بدايات الحرب على سورية محاولة استثارة الغرائز البدائية بطريقة شديدة الوحشية، فيها دعوة للقتل المجانيّ كي يصبح القتل حالةً معمّمةً بحيث لا يعرف الإنسان من يقاتل ومن يحارب، مع تأكيده على أن كلّ ما مورس على سورية كان مخالفاً لكل القواعد التي عرفها التاريخ وقد تخطّى كل الحدود، مبيناً أننا اليوم نعيش أزمةً ثقافيةً كأمة ووطن ومجتمعات صُنّفت ضمن دول العالم الثالث، وهي التي لم تتمكّن في العصور الحديثة من إنجاز مشاريعها الحضارية، ولا أن تستكمل مفهومها الواضح تماماً للدولة المعاصرة، حيث بقيت بشكلٍ أو بآخر غارقة في التاريخ إلى درجة بقائها حبيسة نمطٍ من أنماط الثقافات المتداولة والمتكررة وأحياناً المبتورة والمجزأة، وأحياناً غير واضحة الملامح والسمات، عكس الثقافة الفرنسية والألمانية والروسية التي تمتلك ثقافات واضحة، في الوقت الذي لا نستطيع فيه التحدّث عن ملامح ثقافة عربية ولا عن ثقافة وطنية في ظل التشظي في الشخصية الثقافية وتراجع دور الثقافة في بلدنا، مؤكداً أننا متراجعون في مسألة الثقافة.
الثقافة والهوية
وأوضح المحاضر أن مرحلة ما بعد الحداثة التي ترافقت مع الليبرالية الجديدة حاولت أن تجرّد العالم من قيمه وأخلاقه التي هي جزء من الثقافة بالتأكيد على أننا في عصر التقانة فقط، بمعنى أن عصر الإيديولوجيات والنظريات المعرفية قد انتهى وبدأ عصر التكنولوجيا، وهذا ما تمّ الإعلان عنه صراحةً، لكن الغرب الذي بدأ بالدعوة لذلك يقوم اليوم بمراجعة ذاتية وعميقة، مع الإشارة إلى أن كثيراً من الدول الأوربية لم تنجرّ وراء هذا الكلام كألمانيا والدول الاسكندينافية، وإن كانت قد عانت من التفكّكات الاجتماعية، وخاصةً في مفهوم الأسرة. وأشار الجيش إلى أننا في بلدنا أمام استحقاق ثقافي بامتياز، ولذلك نحن مدعوون إلى عملية مراجعة عميقة في مكوّنات ثقافتنا وبما يمكن أن ننتجه من ثقافاتنا المتوارثة، فنحن منطقة عبرت فيها كل الحضارات الإنسانية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن موضوع الثقافة لا ينفصل عن موضوع الهوية، فعندما نتحدّث عن تشظٍ ثقافي نتحدث عن إشكالية الهوية، وبالتالي فإن قضية الثقافة في مجتمعنا السوري بشكل خاص هي قضية شديدة الخطورة، لذلك نحتاج إلى تحصين ثقافي ويجب العمل فعلاً على شخصية ذات ملامح متمايزة ثقافياً لا تأخذها رياح ثقافات الآخرين في مهبها هنا وهناك، لأن ما حصل هو أننا في لحظة ما من هشاشتنا انقضَّت علينا عبر العولمة وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي مجموعة عوامل ترتبط بالتطور الطبيعي للتاريخ ساهمت بشكل أو بآخر في عملية تشكيل حالة من الهجوم الصارخ على ثقافاتنا، لذلك نحن الآن مطالبون بعملية تأصيل ثقافي مؤسّس على عدم الأخذ بكل ما هو من ماضي ثقافتنا واستنبات وتوليد ثقافات جديدة عبر إعادة القيمة للشخصية الإنسانية في بلداننا.
القيمة العليا
وبيّن الجيش أن الثقافة حتى فترة السبعينيات كانت هي القيمة العليا في مجتمعاتنا، وكانت أجمل الصفات التي تُطلَق على الإنسان هي صفة المثقف، وقد تراجعت كل القيم الثقافية والفنية والإنسانية لمصلحة الابتذال والتهافت والتسليع، وبالتالي لمصلحة تحويل الإنسان إلى شيء ومقارنته بالآلة التي تستطيع أن تنتج أكثر منه وتجد الحلول للعديد من المشكلات، منوهاً بأن التحصين الثقافي يبدأ بعملية النهوض بالثقافة ومراجعتها، والسعي لتكون العلاقة بين المثقف والمؤسّسة الثقافية علاقة شديدة العضوية والتكامل، لأن المثقف لا يستطيع أن يعمل منفرداً، مع إشارة الجيش إلى أن المؤسّسة الثقافية ليست المحدّدة بالملمح الثقافي فقط، وإنما هي المدرسة والجامعة والإعلام وكل من يمكن أن يكون له علاقة بإنتاج فكري وعلمي ومعرفي وبإنتاج ما له علاقة بعادات الناس وتقاليدهم، فكلّ هذه الجهات مجتمعة ينبغي أن تعمل على تشكيل إستراتيجية وطنية وإعادة الاعتبار للثقافة والمثقف، وبالتالي إعادة البناء عليهما، موضحاً أن الثقافة هي فعل إنساني ابتكاري يقدّم حالة جديدة قد تكون نبيلة أو غير نبيلة.. من هنا ينبغي أن تكون هناك حالة نقدية في المؤسّسات الثقافية وتأكيد على أهمية المشاريع الثقافية التي ترتقي بذائقة الإنسان، ومشاركة الجميع في رسم مشاريع ثقافية هدفها تحصين ثقافتنا وحمايتها من الاختراقات، وتكريس دور الثقافة ووضع إستراتيجية وطنية مدروسة بعناية، والتأكيد على دور النقد في تقويم النتاج الثقافي.
وأعقب المحاضرة حوار بين الجيش والحضور أدارته مديرة المركز رباب أحمد والتي كانت قد مهَّدت للمحاضرة بسرد سيرة جمال الجيش في مجال الإعلام والثقافة والأدب، والتأكيد على أن الثقافة هي منهج حياة متكامل وعنوان لحضارة الشعوب، وهي المخزون المهمّ الذي ينتج المجتمع والحضارة بمفهومها الأعم.
أمينة عباس