هل يقود النظام التركي المنطقة والمتوسط إلى حافة الانفجار؟
ترجمة وإعداد: إبراهيم أحمد
عن صحيفة لو فيغارو
أشعل اكتشاف الغاز نزاعات بحرية خامدة بين تركيا واليونان في شرق المتوسط، فشرع البلدان يلوِّحان باستعمال القوة لحسمها، وكما هو معروف فإن جذور هذا الصدام والتوتر تعود إلى ستة ملفات رئيسية:
تخطيط الحدود البحرية في بحرَيْ إيجة والمتوسط.
تسليح الجزر الشرقية في بحر إيجة.
تداخل المجال الجوي.
الأقليات وحقوقها في كل من الدولتين.
مسألة قبرص.
رفض اليونان، التي تتمتّع بحق الفيتو، التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي.
عموماً، وبالرغم من تداخل هذه الملفات، فإن الملف الأكثر تعقيداً بالتأكيد هو ملف الحدود البحرية في إيجة والمتوسط، حيث دفعت الخلافات حول حدود المياه الإقليمية والحدود البحرية الاقتصادية الدولتين إلى شفير الاشتباك المسلح في أكثر من مناسبة خلال الخمسين عاماً الماضية. وليس بخافٍ على أحد أن الأزمات بين تركيا واليونان ليست وليدة هذه التواريخ القريبة، فمنذ ما يقرب من مائة عام تتنازع اليونان وتركيا على 18 جزيرة ولم يُبتّ فيها حتى الآن. كما أن النزاعات العسكرية بين البلدين لها تاريخ طويل، فمنذ أن ضمّت الإمبراطورية العثمانية عام 1363 تراقيا الشرقية إلى أراضيها، لا تزال النزاعات العسكرية قائمة بين البلدين، كان آخرها في عام 1996 والتي تعرف بأزمة “كراداك” التي دفعت بالبلدين إلى حافة الحرب، مما يعني أن حروباً جديدة يمكن أن تكون دائماً على الأبواب بين البلدين.
ومما زاد في حدّة التصعيد الجهود التركية الرامية إلى التنقيب عن النفط والغاز في المناطق المتنازع عليها في شرق البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى توقيع تركيا اتفاقية المنطقة الاقتصادية الخالصة مع ليبيا، كما أن مصادقة البرلمان اليوناني على الاتفاقية الموقعة مع مصر بشأن شرق البحر المتوسط شكّلت بعداً آخر للأزمة. من الواضح أن أردوغان يحاول استغلال مثل هذه المناطق الرمادية التي تؤدي إلى المزيد من التوترات لتوظيفها في السياسة الداخلية خصوصاً في حالة تدني شعبيته، أو طموحه إلى كسب مزيد من التأييد في ظروف الانتخابات، ومن هنا فإن أردوغان يرى أن الحل الوحيد أمامه -خاصة بعد تدهور قيمة الليرة التركية- هو خلق أجواء التوتر وإيجاد خطاب حرب مزعوم مع اليونان. وعند افتتاحه لـ”مسجد آيا صوفيا” راح يستخدم شعارات نارية مثل “آيا صوفيا هي رمز الفتح”، مما أجّج مشاعر فئة من الناخبين، وزادت نسبة أصوات حزب العدالة والتنمية بنحو 3%. وكذلك في اليوم الذي افتُتح فيه مسجد آيا صوفيا، غادرت سفينة الأبحاث التركية “عروج ريس” ميناء أنطاليا ودخلت المياه الإقليمية اليونانية بالقرب من جزيرة ميس، لتبدأ بالمسح فيها. وقبل أيام قليلة، أعلنت وزارة خارجية أردوغان أن تركيا أرسلت 20 سفينة حربية، و8 غواصات إلى القرب من جزيرة كوس في البحر المتوسط، حيث ستقوم فيها بالمسح، ثم قامت تركيا بعملية تدريب على الرماية في شرق البحر الأبيض المتوسط. وهكذا فقد فرض أردوغان أيضاً هذه الأجواء المشحونة بالتوتر كأسلوب في السياسة الشعبوية على حساب مصلحة الشعبين في كلا البلدين. والأخطر من ذلك ما كشفت عنه صحيفة “دي فيلت” الألمانية، التي ذكرت أن أردوغان سعى لافتعال حادث عسكري مع اليونان بهدف “تعزيز شعبيته”، إذ طلب من قادة الجيش إغراق سفينة يونانية في شرق المتوسط.
وعلى الرغم من التصريحات النارية فإن الأزمة ستبقى ضمن حدود الشجار والمناوشة حول بعض الجزر الصغيرة في بحر إيجة، وما يريده أردوغان في الواقع ليس الحرب الفعلية بل “خطاب الحرب”. ومن ناحية أخرى، لن تسمح الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أبداً بتحوّل مثل هذا التوتر بين عضوين مهمّين في الناتو إلى حرب. إن أردوغان يقرع طبول الحرب، ولكنه إذا خاضها بالفعل فسيخسر سياسياً. صحيح أن اليونان أضعف بكثير من حيث القوة العسكرية والمعدات التقنية بشكل لا يمكن المقارنة خلاله بين البلدين، ولكن الاتحاد الأوروبي لن يتخلى عن اليونان ولن يتركها تحت رحمة هذا الطاغية المسكون بأوهام الماضي العثماني العفن والبغيض، إذا ما فشلت الوساطات الرامية إلى تهدئة الوضع.
مواقف متباينة للدول الأوروبية
وفي المواقف الأوروبية، انحازت باريس، في صراع مفتوح مع تركيا، إلى جانب اليونان، رافضة “الأمر الواقع” التركي شرق البحر المتوسط، ومعبّرة عن “تزايد الإحباط” من أنقرة. ولردع تركيا عن مواصلة استكشافاتها للطاقة بالمياه اليونانية، أجرت فرنسا مع اليونان وقبرص وإيطاليا تدريبات عسكرية بالمنطقة، كما كرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون هذا الصيف أن التصرفات الدولية لتركيا تساهم في “موت دماغي للناتو”، مشدداً على أن سياسات أردوغان “التوسعية” تتعارض مع “المصالح الأوروبية”. لكن في مواجهة الدول المتشدّدة تجاه تركيا، وهي فرنسا واليونان وقبرص والتي تهدّد بفرض عقوبات جديدة على أنقرة، اتخذت ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا نهجاً أكثر تصالحاً، وفق ما جاء بتقرير “لوفيغارو” الفرنسية. وتؤيّد برلين، التي تتولى الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، الحوار والدبلوماسية والوساطة، وقد استقبلت بفتور الحشود العسكرية الفرنسية شرق البحر المتوسط، معتبرة أن هذا النوع من المناورات “لا يساعد في خفض التصعيد”. وترى “لوفيغارو” أن هذا يدلّ على أن اتخاذ موقف موحد بين دول الاتحاد الأوروبي حيال أنقرة لن يكون سهلاً، خاصة وأن بعض دول أوروبا الشرقية مثل بولندا والمجر لها علاقات قوية مع تركيا، وقد أعرب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ عن تأييده للمخرج الأمثل، والأسلم للطرفين، من الأزمة المركبة في شرق المتوسط، وهو بالتأكيد التفاوض.
المشكلة، ليس ثمّة آلية لإطلاق مفاوضات تركية- يونانية، ولذا، ستحتاج ألمانيا، المستمرة في جهدها لإحضار الدولتين إلى طاولة المفاوضات، إلى ابتكار هذه الآلية، والحفاظ، على المسار التفاوضي حتى وإن لم يأتِ بنتائج سريعة. ولكن، حتى تصل الدولتان إلى قاعة التفاوض، لابد من ملاحظة أن مستوى المواجهة بينهما وصل حداً غير مسبوق، وأنه حتى إن لم يكن لدى أنقرة أو أثينا نوايا لإشعال حرب، فإن مجرد وقوع خطأ غير مقصود يمكن أن يؤدي فعلاً لمواجهة مسلحة، قد تصبح باهظة التكاليف للدولتين ولأمن المتوسط ككل. مثل هذه المواجهة، على أية حال، يمكن أن ينجم عنها خارطة جديدة في شرق المتوسط. والسؤال المطروح هو: هل يقود النظام التركي التخريبي المنطقة والمتوسط إلى حافة الانفجار؟.