سوق العقارات.. أسعار بعيدة عن الواقع وغياب الحلول يحبط أحلام الناس!
في ظلّ ما يعتري المواطن من سوء الظروف المعيشية، وانخفاض القوة الشرائية مع تخبّطات السوق، هل يمكننا البحث في موضوع أكبر ألا وهو غلاء العقارات، وإيجاد حلول عملية وواقعية في ظل عجزه عن تأمين لبّ مواده الأساسية للمعيشة؟.
شلل شبه تام
خلال لقائنا بعدد من أصحاب المكاتب العقارية، والراغبين بالبيع أو الشراء من المقربين، والأصدقاء في حي مثل مزة 86 الذي يحوي بيوت مخالفات، وتعتبر بيوته أنقاضاً لا تتمتّع بسندات ملكية نظامية باستثناء عدادات المياه والكهرباء، فقد تبيّن لنا أن هذه البيوت قد باتت تُباع بأسعار (خمس نجوم)، وشهدت ارتفاعات وقمماً سعرية غير مسبوقة وصلت مرحلة تُشبه الشلل، ويعود أحد الأسباب إلى لجوء بعض أصحاب المكاتب العقارية إلى أساليب دنيئة، مثل إحضارهم لأناس من طرفهم لشراء البيوت لحسابهم بأسعار رخيصة، ومن ثم احتكارها، والتحكّم بأسعارها عند البيع بالاتفاق بين بعضهم، أو حتى عزوفهم عن تأجير بعض العقارات المعروضة في مكاتبهم بحجة أنه لا يوجد سوق للإيجار، فيما يلمحون إلى سوق البيع الذي أصبح مسيطراً عليه لمصلحتهم، ناهيك عن أسعار الكمسيونات الخيالية التي يحصلون عليها، أما إذا رغبت بشراء منزل معروض بسعر 30 مليون ل.س بعد استسلامك للوضع الراهن فإنك ستفاجأ أن ثمنه أصبح 36 مليوناً، وعند القيام بالإجراءات، والموافقات الأمنية والمعاملات المصرفية، يأتيك النبأ بأن صاحب العقار نكل عن البيع، ويريد سعر 43 مليوناً، وهناك من يريد بيع منزله، وشراء منزل أكبر، أو شراء منزل في مكان آخر، وهو أيضاً بات عاجزاً عن ذلك فبين بيع منزله وشراء المنزل الآخر تبدلات مجهولة، وكل الاتفاقات عرضة للنكول، والفارق ملايين، وعدم الاستقرار في سوق العقارات دون ضوابط هو السبب!!.
تضخمها يجر تضخمات!
المحلّل الاقتصادي عامر ديب أوضح أن القاعدة تقول (بع على صوت المدفع، واشتر على صوت الكمان) وقد تأثرت الكثير من المناطق بنيوياً، وشكلياً نتيجة الإرهاب، وأصبحت العقارات تُباع بأسعار بخسة في مناطق سيطرة الإرهاب، أما العقارات داخل مناطق سيطرة الدولة فكانت أسعارها تزداد أكثر فأكثر، وخاصة في ظل استمرار الخدمات فيها، ولو بشكل متقطع. أما اليوم فالوضع مختلف، حيث بدأ الناس يسعّرون عقاراتهم وفق سعر السوق السوداء، ودون أي مبرّر يُذكر، ما خلق حالة من التضخم في أسعار أغلب العقارات، وأصبح الجميع يتذرّعون بقانون العرض والطلب دون أية قوانين أخرى ناظمة لأسعارها لتغطية قيامهم بالتسعير وفق سعر السوق السوداء، ومخالفتهم للمرسومين 3 و4 لعام 2020 اللذين منعا التعامل بالدولار، أو تسعيره بغير سعر الصرف الرسمي، وقد زاد الطين بلّة الدور السلبي للمكاتب العقارية والوسطاء والسماسرة الذين لا يهمّهم سوى زيادة كتلة أرباحهم دون أية اعتبارات أخرى، وكما نعلم فإن التضخم يبدأ من الكتل المالية الكبيرة مثل العقارات والسيارات، وتلحق بها الكتل المالية الصغيرة، وهذا يشكّل أمراً خطيراً على الاقتصاد الوطني كله، علماً أنه في العامين الأخيرين أصبحنا نلاحظ وفرة في العرض في سوق العقارات وقلّة في الطلب، وبالتالي يجب أن تنخفض الأسعار، وليس العكس كما يدّعون، بسبب عجز الكثير من المواطنين عن شراء العقارات. وللأسف فقد وصلت أسعار بعض البيوت في المناطق الراقية في دمشق إلى مبلغ ثمانين مليوناً، أو مئة مليون، أو حتى مليار ليرة سورية!، والمزعج أكثر أنه في بعض المناطق الشعبية، وأحياء المخالفات كانت هناك بيوت بسعر 20 مليوناً أصبحت اليوم بسعر 35 مليوناً دون أي مبرّر يذكر!، بل وحتى في المناطق التي أُعيدت إلى سيطرة الدولة في ريف دمشق كعين ترما كان سعر البيت مليوني ليرة وأصبح الآن بسعر ستة ملايين ليرة سورية دون أي تغيّر ملحوظ أدى للسعر الجديد، وعند مناقشة البائع يقول لك: أصحاب المكاتب العقارية هم من سعّروا!، مما يدلّ على الجهل بأبسط قوانين السوق العقارية، وأسس التسعير، وبذلك هي عملية لا تشبه سوى المضاربة والضغط على الليرة السورية، فمن لديه معمل على سبيل المثال سيشتغل به، ويحقّق أرباحاً إلى أن يتمكّن من شراء منزل، وسيارة، ومزرعة، وعندما يعجز عن ذلك بسبب الأسعار السائدة سيضطر لزيادة أسعار السلع، أو الخدمات التي يبيعها للزبون، وبالتالي سيحدث التضخم في أسعار كل السوق، وليس فقط في سعر العقارات. واعتبر ديب أن قرار الحكومة بالبيع عن طريق رصيد في المصارف سيؤدي لإعادة ضبط حالات تخبّط الأسعار التي تنتشر في سوق العقارات رغم الاعتراض الشعبي الكبير على القرار، والأنكى من ذلك كله أن الناس يتذرعون بارتفاع سعر الصرف الموازي عند رفع أسعار عقاراتها، ولكن بالمقابل عند هبوط سعر الصرف في السوق الموازية لا أحد يخفض السعر الذي وصل إليه عقاره مهما كان الانهيار في سعر صرف الدولار، وهذا كلّه سينتهي بتدمير قطاع العقارات، وانهيار أسعاره في المدن، وخاصة في دمشق على حساب العقارات في الأرياف، أما فيما يتعلق بالمشروعات العقارية الكبرى مثل ماروتا سيتي وغيرها، فقد أوضح ديب أنها مشاريع جيدة، فالتطور العقاري والعمراني يعكس نهضة البلاد، لكن للأسف آليات التطبيق والتنفيذ تكون غالباً خاطئة وقاصرة، سواء من قبل بعض القطاعات الحكومية، أو من خلال التعاطي الشعبي مع الموضوع. وقلّل ديب من أهمية ارتفاع أسعار مواد البناء، ووقف استيراد الحديد، مؤكداً أن أغلب البيوت تمّ بناؤها منذ ما يربو عن العشر سنوات.
الحل لدى العام والتعاوني
الدكتورة لمياء عاصي رأت أن أزمة العقارات الحالية حقيقية، وأن العقارات الموجودة أقل من الاحتياجات الفعلية، وأسعارها فوق احتمال الغالبية العظمى منهم. وتعود أزمة العقارات في مدينة دمشق على وجه الخصوص لأسباب مختلفة كمحدودية الأراضي المنظمة المعدّة للبناء، وأسعارها المرتفعة جداً، إضافة إلى التعقيدات الإدارية التي جعلت الأسهل والأرخص البناء في المناطق العشوائية دون تراخيص، أو مراعاة لأسس السلامة الإنشائية، وهكذا أصبحت المناطق العشوائية منتشرة، ومعروف أن المستفيدين الأساسيين من المناطق العشوائية هم بعض الموظفين الفاسدين في الدوائر البلدية. أما بعد الحرب فقد أصبح الوضع العقاري أكثر تفاقماً، إضافة لعملية الدمار الواسعة في كثير من المناطق والتي وصلت إلى حدود الثلث وفق تقديرات (الإسكوا)، مع تضرّر البنية الأساسية لنحو نصف مليون منزل، إضافة لتدني دخل الفرد مع انخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية، وهي عوامل جوهرية تمنعهم من ترميم عقاراتهم أو بناء أو شراء عقارات جديدة بالكامل. الموضوع يشكّل عبئاً على المواطنين، خصوصاً وأن قدراتهم المادية أقل بكثير مماهو مطلوب منهم، أما بالنسبة للقروض العقارية فهي متوقفة حالياً، حتى وإن عاد العمل بها فإن أقساطها ستفوق الدخل الشهري بمرات كثيرة.
من جهة أخرى فإن قطاع العقارات يعتبر مجالاً تنموياً بامتياز، لأنه يلبي احتياجات نمو السكان بشكل أساسي، ثم إن قطاع البناء يؤمّن فرص تشغيل لليد العاملة، وتوقفه نتيجة الظروف الراهنة سيعني المزيد من نسب البطالة، أي أن المشكلة لا تقتصر على السكن فقط وذات جوانب متعددة.
ويتوجّب على القطاع العام أن يلعب دوراً إيجابياً في تنشيط هذا القطاع من خلال تخصيص أراضٍ قريبة من المدن من ملكيات الدولة، وتنظيمها على شكل قرى نموذجية، أو مقاسم تنظيمية، وتجهيزها بالبنى التحتية والخدمات الأساسية، ثم يتولى القطاع الخاص البناء على الأرض، مقابل أن يمنح نسبة من الشقق الجاهزة للدولة لكي توزعها على المسجلين والمستحقين حسب معايير معيّنة، ويتمّ التمويل اللازم من البنوك العامة والخاصة ضمن أسعار الفائدة السائدة، وهذا النموذج استُخدم بنجاح في ماليزيا، ولابد أيضاً من إطلاق القروض العقارية بفوائد مدعومة، وضمن ضوابط محكمة تمنع إساءة الاستخدام، ولابد أيضاً من عودة القطاع التعاوني الذي أدى خدمات عقارية جليلة لمئات الآلاف من الأسر، ومكّنهم من الحصول على منزل.
بشار محي الدين المحمد