مشفى العيون
د. نضال الصالح
بعينيّ رأيتُ، ولو أنّ أحداً روى لي أقلَّ ممّا رأيتُ، لرميته بما روتْ، وما لم تروِ، أسفارُ الأقدمين من صفات ودرجات للكذب. أجلْ، أنا الذي رأيتُ. ودهشةً، وريبةً في صفاء عينيّ، وأسئلةً معقودةً بأسئلة، فتحتُ عينيّ على آخرهما وتابعتُ الجليلَ الذي ما إنْ بزغتْ امرأةٌ أمامنا، حتى اتسعتْ عيناه.. أومضتا ببريق غبطةٍ، ثمّ ما إنْ مرّت بنا، حتى استدار بجسده دورة كاملة، وتابع النظر، بل التحديقَ، في وجه المرأة، ثمّ ردّد: “عيونُ المها بين الرّصافة والجسرِ.. جلبنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري”، ولم تكد عيناه تمسكان بدهشتي وريبتي وأسئلتي، حتى قال: “اللهَ جميلٌ، ويحبُّ الجمال”.
عينا الجليل تطوّفان في المكان، كأنّما تستمطران وجهَ المرأة التي كانت، ولم تكد عيناه تبلغان نقطةً من المدى الشفيف أمامنا، حتى سمعتُه يرتّلُ من آي الكتاب: “فإنّها لا تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوبُ التي في الصدور”، وكأنني كنتُ في حضرة صلاةٍ لا تشبهها صلوات، أو ذكْر لا تشبهه أذكار. كنتُ أصغي مفتوناً بصوت الجليل وعينيه اللتين رأيتُ فيهما ما لم أكن رأيتُ من قبلُ.. رأيتُ فيهما ضراعةً لفرح غائب، ولم أكن مضيتُ بعيداً في بيداء التفسير، حتى قال، بإيقاعٍ مختلفٍ، وبريق عينين مغاير: “العينُ.. العينان.. العيونُ.. اللغةُ / اللغاتُ.. أوّلُ المعرفةِ والطريقُ إليها.. فردوسُ الشعراء ولظاهم”، ثمّ فاضتْ عيناه بدمع مباغت، حتى اخضلّت لحيته، وحتى فتحتُ عينيّ على آخرهما دهشةً، وريبةً في صفائهما، وأسئلةً معقودةً بأسئلة، ولم ينجني من لظى الدهشة والريبة والأسئلة سوى الأمرِ المباغتِ له، بل الحال التي صار إليها غير تلك التي كان عليها قبل أن يباغتني بالأمر. قال: “خذْني إليه”. وأدركتُ قصده، فمضينا إلى “مشفى العيون الجراحيّ” في حلب، فاستعدتُ: “كان ثاني مشفى تخصصيّ للعيون، وأكبر وأهمّ أمثاله في الشرق كلّه. وكان يتوزّع على ثلاثة طوابق، ويضمّ ستين سريراً، وأجهزة طبية باهظة القيمة والثمن، ويعمل فيه نحو مئتي موظف، منهم ثلاثون طبيباً وطبيبة. يُعنى بمعظم أمراض العين وجراحاتها، الشبكية والتجميلية والأورام، والماء البيضاء والزرقاء، وزراعة القرنية”.
أدركتنا الغيمةُ.. شأنَها دائماً.. تهادتْ حتى بلغنا صهوتها، فطارت بنا نحو الشرق من المدينة، وكنتُ، والجليلُ، من علٍ، نرى حطام بناء، صيّره عمى القلوب سجناً.. جحيماً لصناعة الموت.. ثمّ.. ثمّ فاضتْ عينا الغيمة حتى كان سيلٌ.. ورأيتُ.. أنا الذي رأيتُ.. ولم تكن ريبةٌ، ولا دهشةٌ، ولا أسئلة.. رأيتُ امرأةٌ تبزغُ من خرابِ الخراب.. تفترُّ عيناها عن ضحكة باذخة الغواية.. اتسعتْ عينا الجليل.. أومضتا ببريق غبطةٍ، ثمّ ما إنْ مرّت المرأةُ بنا، حتى استدار بجسده دورة كاملة، وتابع النظر، بل التحديقَ، ثمّ ردّد: “عيونُ المها بين الرّصافة والجسرِ”، فأكملتُ: “جلبْنَ الهوى من حيثُ أدري ولا أدري”، فقال: “اللهَ جميلٌ.. الله جميلٌ، ويحبُّ الجمال”.