اسق العطاش.. مهبط الوحي والإلهام في الموسيقا الشرقية العربية
تستقي حلب من مياه الأمطار، ومن ينابيع قليلة لا تفي بالحاجة، ومن قناتها القديمة، مما جعل السكان يقومون بطقوس يستنجدون الإله ليرفع غضبه عنهم ويسمح بإرسال الغيوم لإنزال المطر. وكان من تلك الطقوس إرسال الأطفال يطوفون في الشوارع وهم يردّدون أيام انحباس المطر: “الغيث يا الله الغيث نحن صغار بدنا خبيز”، وينضمّ الكبار إلى الصغار ويسيرون أمامهم، ويخرجون إلى ظاهر المدينة، وهذه التظاهرة تضمّ أبناء حلب على اختلاف دياناتهم ومللهم ونحلهم، يرتدي الكبار منهم أردية مقلوبة وهم يستغفرون ربهم ليصفح عنهم ويغفر لهم ذنوبهم. وبعد ذلك يقيمون صلاة الاستسقاء، وهي ركعتان تؤديان في ظاهر المدينة، وعلى الإمام الذي يقود هذا التجمع أن يحثّ الناس على التوبة والتصدق والصوم مع الخشوع والضراعة.
ويعدّ فاصل “اسق العطاش” درّة الغناء العربي الذي أبدعته حلب، ويقول عنه فتح الله قسطون: “هو نخبة قيمة ممّا جادت به قرائح أجدادنا الموسيقيين من بدائع الفن، وهو شاهد حيّ على ما كانوا عليه من رقّة الشعور وسلامة الذوق ولطيف الخيال وعلو المنزلة في فنيّ النظم والتلحين”.
والأستاذ عبد الله يوركي حلاق له أكثر من مقالة مع اسق العطاش، يقول في إحداها: “مجموعة بديعة نادرة من الأناشيد والقصائد والموشحات والتحميلات والأدوار المتنوعة الأوزان والقوافي، والمتعدّدة النظمات والأصول والتقاسيم”.
ومجمل ما قيل عنه: “إنّه دعاء استسقاء، أو رمز صوفي يُتلى في الأذكار والمقامات الدينية وفي جميع الأحوال لا يمنع أن يكون دعاء استسقاء بُني بأسلوب صوفي، أو بالاثنين معاً”.
بعضهم يردّ تأليفه إلى الشيخ محمّد المنبجي، فيحكى أنه في سنة 1190 هجرية انحبس الغيث عن مدينة حلب، واشتد العطش فيها، فهرع الأهالي إلى ربوة هناك يتضرعون إلى الله تعالى أن يبعث لهم المطر، وكان الشيخ محمّد المنبجي وهو موسيقي معروف في تلك الفترة، قد لحن عدداً كبيراً من الموشحات الدعائية، استهله بالدعاء ينشده مع تلاميذه في ذلك اليوم العظيم المنشود، ويُروى أن الله استجاب لدعائهم وأنزل مطراً غزيراً عليهم بعد انتهائهم من الإنشاد فوراً، وهكذا ظل هذا الفاصل “اسق العطاش” يتغنى به أهل حلب كلّهم حتى عصرنا هذا، وظل فاصل “اسق العطاش” يقدم ناقصاً أو على شكل فقرات منفصلة إلى أن قام الأستاذ صباح فخري باختيار ساعة منه، وقام بتسجيله:
مولاي أجفاني جفاهن الكرى والشوق
لاعجه بقلبي خيّما
مولاي لي عمل ولكن موجب لعقوبتي
فاحنن عليّ تكرماً
واجلو صدى قلبي بصفو محبة يا خير من
أعطى الجزاء وأنعما
يا ذا العطاء
يا ذا الوفاء
يا ذا الرضا
يا ذا السخاء
اسق العطاش تكرماً… الخ الفاصل
ويتابع الأستاذ محمّد كمال فيقول: “إنّ ناظمه الشيخ محمّد الوارق منشد الزاوية الهلالية، وهو نفسه الذي قام بتلحينه على نغمة الحجاز، وذلك قبل 300 سنة، حين تعرّضت حلب لموجة من الجفاف ونضوب الينابيع، وهذا بعض مقاطعه:
اسق العطاش تكرماً فالعقل طاش من الظمأ
أغث اللهفان واسق العطشان
ثم أدخلت عليه قدود حلبية وغدا للغناء أكثر منه للابتهال”.
ويُنقل عن توفيق الصباغ أن ذلك كان سنة 1190 هجرية، وأن لحنه منسوب إلى الشيخ محمّد الصيداوي، لكن الدكتور جوزيف زيتون يذهب إلى أن الكلمات واللحن تعودان إلى الشيخ أمين الجندي الحمصي.
ويبدأ أحمد الإبري بحثه بالحديث عن حلب ومكانتها الموسيقية، فيقول: “كنّا وكانت الشهباء مهبطاً لوحي الفن الموسيقي ومجلى للقرائح الموسيقية ومنبتاً لنوابغ الموسيقيين”. ثم يورد الآراء في تسمية هذا الفاصل بـ”اسق العطاش” من غير أن يرجح رأياً، فمنهم من يعيده إلى قحط أصاب مصر فتضرع الناس قائلين: يا ذا العطا.. يا ذا الوفا.. يا ذا الرضا.. يا ذا السخا.. اسق العطاش تكرماً، ومنهم من يقول: إنّ الحادثة وقعت في حلب، وآخرون يقولون إنّه مجرد رمز صوفي، وبعد عرض هذه الآراء يقدّم تحليلاً موسيقياً دقيقاً ومختصراً، بحيث يرجع الفاصل إلى حلب لأنه يحمل خصائص مدينة حلب الفنية، يقول: “غير أننا إذا بحثنا عن موسيقا هذه المنظومة والألحان التي تتضمنها والأدوار التي تتخللها من تواشيح وتهاليل وتجاويد، نجد أنها (أي النغمة) حجازية الأصل، سورية المنبت، حلبية اللهجة والأسلوب والطور، لها طابعها الخاص الذي تضاهي به بقية النغمات الشرقية، لا تعقد ولا تكلف، على جانب من الرقة والجمال”.
ثم يتحدث عن نغمة الحجاز المستعملة في الفاصل بأسلوب متين يجمع بين العامية والأدب، مميزاً إياها عن المصرية، يقول: “والنغمة الحجازية المستعملة في هذا الفصل تختلف عن نغمة الحجاز المصرية، فالأولى: أي الحلبية، صافية القرار، خالصة من الزركشة والتفنن الزائد، لها جمالها الطبيعي، تعرف لأوّل وهلة لدى من له إلمام بالموسيقا بأنها شهبائية تمثل الحلبي بهدوئه وسكونه ولطفه ولينه.. والمصرية: حادة اللهجة، ذات أسلوب مزركش وثوب مطرز مما يوافق اللهجة المصرية وأساليبها الغنائية”.
وبما أن رقص السماح كان يؤدى مع موشحات هذا الفاصل، فإنّ الإبري يفرد جانباً له متحدثاً عن أصل تسميته، كما يورد حادثة طريفة بين الراقصين وضاربي الإيقاع، ويختم البحث موضحاً منهجه فيه فيقول: “إننا لم نعتمد فيما قلناه إلا على موسيقا الفصل نفسه”.
ونختم قولنا بأن فاصل “اسق العطاش” حلبي اللهجة، حلبي الأسلوب ليس فيه تكلف ويُعطينا الجمال على أصوله.
فيصل خرتش