الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

محمد راتب الحلاق يرحل في زمن مختلف

أحمد علي هلال

يحايث الفقد أرواحنا بوصفه الحقيقة النهائية التي تحمل تلك الأرواح إلى أبديتها الخضراء.    قبل رحيله كانت له محاضرة عن المسرحي وكاتب ومخرج مسرح الطفل الراحل محمد بري العواني، شاء أن يقول بضع كلمات في سيرته وعطاءاته، وهو المهجوس بالفقد، يومان فقط تفصل تلك المحاضرة عن رحيله، لكأن الرجل كان يعلم أنه راحل، بعدما أدى رسالته الفكرية والثقافية والاجتماعية على نحو يليق به باحثاً حصيفاً وصاحب مقولات جدلية، إنه الباحث والأديب محمد راتب الحلاق، الذي شُغل بأسئلة الفكر الاجتماعي والسياسي ومقارباتها في غير نسق كتابي، فضلاً عن جهوده الحثيثة في مقاربة قضية المرأة في الفكر العربي الحديث والمعاصر «هذا كتاب سيصدر له عن اتحاد الكتاب العرب»، ذلك أن أهم ما يميز أعماله البحثية هو سؤال ثقافة التغيير سواء على مستوى البنى المجتمعية أو الأنساق الثقافية ومرجعياتها، فمثلاً موقفه من قضية الشعر ما بين «التثوير والتبشير والتنوير»، إذ يقول: الشعر ليس للتعليل أو التبرير أو المحاججة أو السجال، الشعر لخلق النشوة الجذلى في النفوس والعقول المستعدة، ليخلص للقول: بأن الشعر والفن رسالة.

حياته كانت حالة بحث مفتوح في الفكر والثقافة والإبداع، ولعل زاويته “رؤى” كانت ترجمة لما يعتمل في فكره من حيث طريقة التفكير والبوح بقضايا تخص الإبداع عموماً، وهذا ما يشكل قيمة مضافة لباحث دؤوب أخلص للحقيقة وذهب في إثرها منشطاً للتفكير الشعري والإبداعي، ولعلنا حينما نستعيد شخصية هذا الباحث وقوامها المعرفي الجاد، نستعيد صورة من نشاط فكري يضاف للمشهد برمته فكراً متعدداً ينفتح على الآخر ويتكامل معه، في أفعال الثقافة في زمن مختلف زمن الحالمين بصورتها –الثقافة- وكيف تليق بمنتجيها لتصبح علامة حضارية تؤسس لزمن قرائي جديد، زمن تُستعاد فيه الأسئلة الكبرى، أسئلة المثقف وأسئلة الثقافة ليس من أجل إجابات متسرعة، بل من أجل أن تتكامل الحقيقة وتحمل دلالات استنهاضها.

محمد راتب الحلاق لم تجف أسئلته ولم تطو صفحاته، لأنها كأحلامه مشرعة نوافذها على المطلق، وهي من تواسي ذلك القلق النبيل الذي كان يساوره أبداً، فصوته الهادئ المكتنز برعشة القلب في محاضرته الأخيرة كانت أشبه بخطاب الوداع، لكنه وداع منقوص لأن الكلمة تبقى كما خطابها لتلون الآتي بنضارة تفكير متوثب واجتهاد يأخذ علامته من قراءة جديدة –للراحلين- تقف على حقيقة مفهوم الرسالة التي عاشوا لأجلها، بل تماهوا بها حدَّ الانصهار وما كانت حيواتهم سوى ترجمة لفكر خلاق سيؤتي أكله بتأويل مختلف لما جادت به قرائحهم…. يا صاحب الأثر الطيب أنت الآخر لنكون نحن، هكذا كنت تذهب في إثر الآخر الذي تستعيده بنا جميعاً أمام استحقاق كبير: جدوى الحياة وجدلية الإبداع.