صانع دراما ينشر الفضيلة
في واحدة من لوحات مسلسل “مرايا” الذي نشأت أجيال على الاستمتاع والتعلُّم منها، يظهر فناننا الكبير جالساً مع صديقه “أبو لوتس”، الذي لم يره منذ زمن وهما يتجاذبان أطراف الحديث، فيشتكي لصديقه أنه كان يتعرّض للزجر دائماً خلال حياته لكي يصمت كلما حدث وسألَ سؤالاً مُلحّاً، وهكذا نرى بتقنية “الفلاش باك” بعض تلك المواقف، منها عندما كان في الجامعة طالباً واعترض على الدكتور المُحاضر وهو يُبجل ويُعظم بـ”كارل ماركس”، قائلاً له: “لماذا تتكلم عنه وكأنه واحد من أبطالنا القوميين؟”. ينهره الدكتور طالباً منه أن يصمت، ومرّة مع موظف مرتشٍ سأله عن العملة الكثيرة التي معه، أيضاً يخرج عليه الموظف بعالي الصوت بأن يصمت، وهكذا يستمر الحال معه، وفي نهاية الجلسة مع الصديق، يعلم من الأخير أنه صار من أصحاب الثروات والأملاك والعقارات، فيسأله أيضاً: من أين لك هذا وأنت موظف تعتمد على الراتب؟ فيغضب صديقه ويطالبه –المفروض أنه يُصغي لشكواه-أن يصمت، فيتعجب فناننا ويسأله: حتى أنت يا “أبو لوتس”، وذلك في استعارة ذكية ومبدعة لمسرحية “يوليوس قيصر- وليم شكسبير” التي يتعرّض فيها قيصر للطعن من أعضاء الكونغرس، فيلوذ بصديقه بروتوس، ليعاجله الأخير بالطعنة القاتلة، ويصيح يوليوس: حتى أنت يا بروتوس!.
هذا نموذج من تجارب ناجحة لا تُحصى للمستوى الفكري والفني الرفيع الذي كان يظهر في أطول سلسلة درامية على المستوى العالمي، والتي كانت تختلط فيها الحكاية الشعبية مع عيون الأدب العالمي، بل ويظهر فيها بعض اللوحات التي يكون الحوار فيها على طريقة السجع الصعب، وهي من النوع الذي يُطرب له أصحاب الذائقة الأدبية الرفيعة.
النجم المعجون بألف شخصية وشخصية والذي ينتقل بين جيل وآخر، اخترع نوعاً كوميدياً عن طريق اللوحات المتفرقة، تتحدث عن مثالب المجتمع والفكر والسياسة والتربية، العادات والتقاليد والأسرة في آن، وكان يظهر فيها أغان جديدة من كتابته وتلحينه وتمثيله، من منّا لا يتذكر “كبة لبنية جاي ع بالي” التي يقدم فيها الحنين إلى الوطن بطريقة سلسة وبسيطة، بعيدة عن التكلُّف والشعارات، تأخذ شكل الشوق العفوي لأطعمة البلاد، فيربط بين العضوي الذي لا خلاف عليه، وبين قيمة رفيعة “الوطن”، فالمطبخ السوري جزء لا يتجزأ عن ثقافة البلاد، وفي لوحة قريبة من المضمون نفسه عن رجل مغترب أخذ معه بعض “المونة” فبدأ الجميع بزيارته إلى غرفته في الفندق، ومنهم فتاة أجنبية حسناء بعد أن فتح لها الباب تسأله: “سمعت عندك شنكليش هومسي” –أي حمصي- وهذا يقلب المعادلة الثقافية الاستعمارية الرائجة، بدلاً من أن ينبهر بالغرب، فإن هذا الغرب كله متمثلاً بالفتاة هو من ينبهر بـــ”الشنكليش الحمصي”.
هل كلمة “نجم” تكفي لتقديم فناننا الكبير؟ ربما إذا قلنا “صانع النجوم” نقترب أكثر من الدقة، هؤلاء الذين نراهم اليوم من نجوم الصف الأول، على الشاشات المحلية والعربية، جميعهم بدؤوا طريقهم بمشهد أو مشهدين معه، فتنتقل النجومية إليهم بالعدوى ويحصلون على مصداقية من الجمهور، الذي كان يجلس ليشاهد فنّاً سيقدم له الضحكة والمتعة، والمعرفة والنصيحة.
الكثير من اللوحات كانت تأخذ شكل النصيحة التي تُحذّر الجمهور من أساليب النصب والاحتيال، وفي الوقت نفسه تُنمّي الذكاء وتحقّق مبدأ التعلم من “كيس” الآخرين، وهذا يعني تثقيفاً قانونياً للجمهور، مثل لوحة الصائغ الذي أرسل بالفاكس عدداً من الرسائل بخطه ومن رقمه، ليخبر نصاباً أودع لديه جوهرة مزيفة وطلب منه بيعها، بعروض الأسعار التي يتلقاها ثمناً لها، على أن يستشيره كل مرة في السعر المعروض قبل بيعها، وهكذا تُصبح رسائل الفاكس دليلاً على أن الجوهرة المزيفة نفيسة فعلاً، في حين كان الزبائن الذين يريدون شراءها ويدفعون لقاء زيفها مبالغ ضخمة، مبعوثين من النصاب نفسه، أو لوحته الطريفة عن “البيبي سيتر- جليسة الأطفال” التي ينتقد فيها رواج هذه العادة الغريبة عن مجتمعنا، فالمرأة المكلفة برعاية الطفل وانتظاره، يكتشف الزوج أنها تأخذه لتشحد وتتسوّل عليه في الشوارع!.
ماهي الميزة الأكبر لمشروع “مرايا” التي نفتقدها في دراما اليوم والتي كانت تمتلكها؟ الأستاذ المعلم في الصف يُعاقب ابن مسؤول أخلّ بالأدب، ويطلب منه إحضار ولي أمره، ينصحه الجميع بألا يفعل، لكنه يُصرّ على موقفه، فيقابل المعلم المسؤول ويشرح له الأمر، يأتي الأخير إلى المدرسة وفي الصف أمام الطلاب، يقف ليعتذر منه ويشكره على مهنيته، مقدماً نموذجاً للمعلم كيف ينبغي أن يتصرف. باختصار الميزة الأهم لنتاج ياسر العظمة الدرامي، والمُفتقدة في درامانا اليوم هي “نشر الفضيلة”.
تمّام علي بركات